كل المجتمع يتكلم عن التعليم ، ويعاني منه ويأمل فيه ، والجميع غرقي في تفصيالته ،فرأيت بعد عشرة مقاالت متتالية أن أعيد تعريف مقاصدي ، وأن
أربط المستقبل بالحاضر والماضي .
هناك خلط بين مفهوم التعلم والمعرفة وبين التعليم ، بين الهدف والوسيلة ،
فالتعليم وسيلتنا للتعلم وليس هدفنا ،الحوار حول المدرسة والمعهد والجامعة،
ولألسف يدور حول الوسيلة وليس الهدف..
تعالوا معي لرحلة مختصرة عن تاريخ المدرسة والجامعة وكيف بدأت
المدارس بادئ ذي بدء ، وكيف تطورت ، لنعرف الي أين يقودنا الحوار.
قرأت كتاباً عن أعظم الشخصيات التي أثرت في واقع البشرية فلم أجد في
الغالبية العظمي منهم من كان تلميذا في مدرسة بمفهومها الحالي.. فال ً
محمد وال عيسي وال موسي وال إبراهيم بكل تأثيرهم في تاريخ البشرية قد
تعلم في مدرسة، وال بوذا و وال كونفشيوس ، وال الفارابي وال أبقراط ، وال
نيوتن صاحب نظرية الجاذبية وقبله المصري الذي كتب علي أوراق
البردي، وال مهندسي المعابد واألهرامات ، وال من إخترعوا التقويم ،
وآالت الزراعة ،وال أغلب من بدؤا الثورة الصناعية ،وال جوتنبزج مخترع
المطبعة، وال ليونارد دافنشي وال شكسبير ، وأنا هنا أذكر أمثلة يعرفها القارئ
العادي… ولم يكمل األستاذ العقاد دراسته المدرسة بعد اإلبتدائية ولم يدرس
في جامعة وأضيف اليهم من كانوا أسسا للحضارة مثل أرسطو وأفالطون و
ابن رشد وابن خلدون وغيرهم ، كلهم لم يدخلوا مدرسة نظامية بمفهومنا ،
والتي هي الشكل والوسيلة التي إرتضيناها نظاميا في القرن الثامن عشر
فقط بهدف تعليم الدين واعداد الجيوش.
نعم ، الهدف الضمني كان الدعوة للدين بمفهوم رجاله والطاعة والمهارة
الحربية بمفهوم الغزو والسلطة.
إذن المدرسة بمفهومها النظامي كان ، ولألسف ما زال، إخراج مجموعات
البشر الذين يؤمنون بأفكار من وضع لهم نظامهم ، وأن ينجحوا إذا وافقوا
علي الإجابة المحددة وأن يرسبوا إذا خالفوها. هناك صح واحد والباقي خطأ،
هناك إختبار يقيس مدي توافق التلميذ مع الإجابة المحددة ، مع أن كل من صنع قفزات التاريخ هم من خرجوا عن المعتاد ، وفكروا خارج الصندوق والنمطية ، ورفعوا سقف خيالهم الي أبعد مما قرر جيل سابق لهم..
لو نظرنا إلي مدارسنا اليوم بمنطق براجماتي عملي ، فلابد لنا من وقفة جادة وإحداث نقلة نوعية حادة..
ما هو هدفنا من التعلم ؟؟
المدرسة ونظامنا التعليمي مجرد وسيلة وليست الهدف في حد ذاتها…
ماذا نريد من أطفالنا وشبابنا في المستقبل؟؟
وعلينا إيجاد وسائله ، وليس اتباع نفس الوسائل التي أنتجت ما نشكو منه
الآن…سأعطيكم مثالً عمليا:ً
عندك مصنع ، وفيه خطوط إنتاج ، يخرج منها منتجات، هدفها أن تباع في السوق المحلي والتصدير وتصلح إلحتياجات الناس….
فإذا أتيت بأفضل واآلالت ، وأوقفت علي خط اإلنتاج عمال غير أكفاء،
وأنتجت ببطء ، منتج لا يحتاجه السوق ،) في حالتنا لا يحتاجه مستقبل بلادنا(
وخسرت قيمة مدخالتك الإنتاجية وموادك الخام الممتازة ، ولم تستطيع
الاستفادة من مخرجات هذا المصنع ، ألن السوق لا يريده فأنت خاسر وستفلس لا محالة..
المدارس في مصر هي مصانعك إنتاج البشر الكفء المنافس الذي يرفع قيمة
وطنك، فإذا إستمر المصنع في العمل بنفس الطريقة ، فستحصل علي نفس
الخسارة سنة بعد سنة وجيل بعد جيل..
القليل من الصبر معي علي فهم النظرية ……
موادك الخام ، وهم أطفالنا وشبابنا وهم من من أجود الأنواع ومماثلين لأقرانهم في بلاد العالم ، وأستطيع إثبات ذلك تاريخيا وحاضرا… ولكننا
قررنا عبر الخمسين سنة الماضية تكرارا ، أن يكون مدرسينا ومسئولي وهم قوتنا البشرية في إدارة مواردنا هم الأقل كفاءة و الأدنى أجراً التعليم
يوجد طفرات واستثناءات( وأصبحت
)طبعا خطوط إنتاج مصانعنا) ً
أقصد ِمدارسنا( بمعدات غير كفء ،ومنتجنا الذي تظل موادنا الخام داخل
خطوط انتاجه ١٨ عاما متتالية ليست منافسة وما يحتاجها السوق، ونحن
نصر علي استكمال العمل بنفس الطريقة..
هل هناك غباء وضبابية رؤية مثل هذا.
المصنع يخسر ، ومهما جددت آلياته ، وغيرت محتوياته ، وأنفقت مليارات
علي تكرار بناء مصانع مشابهة فستحصل علي نفس النتيجة، بل تتضاعف
الخسارة.
مثل آخر ، كأنك تريد الذهاب الي الإسكندرية وتركب القطار أو السيارة إلي أسوان، فمهما جددت في السيارة وغيرت السائق ووسعت الطريق وأعدت رصفه عشر مرات ، ففي النهاية أنت ذاهب إلي حيث لا تقصد.. ستصل أسوان وليس الألسكندرية..
فهل حققت غرضك؟؟
هل وصلت إلي مبتغاك؟؟
هل مباهاتك بالإنفاق والجهد والعرق في الوسيلة أوصلتك الي ما تريد؟؟؟
نواصل