ما الذي كان يمكن أن يفعله مهندس الدبلوماسية الأميركية وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر حامل جائزة نوبل للسلام لعام 1973، الذي توفّي نهاية الشهر الماضي عن مئة عام، لحلّ الحرب الإسرائيلية الفلسطينية التي تدور رحاها اليوم؟”:
ركّز هنري كيسنجر في مسيرته على محاولة فرض النظام بين الدول داخل النظام الدولي. لهذا السبب لا يُذكر عموماً لإنجازاته في صنع السلام. في الواقع، كان متشكّكاً للغاية في البحث عن السلام. لكنّه مع ذلك، أرسى في الشرق الأوسط، حيث كرّس الكثير من طاقته كوزير للخارجية، الأسس لسلام عربي إسرائيلي تمكّن من الصمود في وجه كلّ تحدّيات حروب الشرق الأوسط التي تلت ذلك. فما الذي يكمن وراء هذا الإنجاز غير العاديّ والذي غالباً ما يتمّ تجاهله؟ وما الذي كان يمكن أن يفعله كيسنجر، الذي توفّي يوم الأربعاء الماضي (30 تشرين الثاني)، لحلّ الحرب الإسرائيلية الفلسطينية التي تدور رحاها اليوم؟
في رأي كيسنجر، كان من الضروري دائماً تجنّب الكثير من الشغف في البحث عن السلام. لقد أدرك أنّ الملوك والأباطرة عبر التاريخ، والرؤساء الأميركيين الذين خلفوهم، سيميلون إلى استخدام قوّتهم الهائلة لمحاولة إنهاء الصراعات. لكنّ كيسنجر اعتقد أنّه كان لا بدّ من مقاومة هذه الغريزة لأنّ الاستسلام لها من المرجّح أن يؤدّي إلى المزيد من الحرب. وهذا ما سمّاه “مفارقة السلام”، حيث إنّه دعا إلى اتباع نهج تدريجي لصنع السلام: عملية تدريجية من شأنها التخفيف من الصراع وكسب الوقت للأطراف المتحاربة للتصالح مع بعضها، ولتتعلّم العيش معاً، وفي نهاية المطاف وأخيراً إنهاء النزاع بينها.
كان هذا هو نهجه في عملية صنع السلام في الشرق الأوسط عندما واجه، كوزير للخارجية قبل 50 عاماً، حرب يوم الغفران المفاجئة، التي شنّتها مصر وسوريا ضدّ إسرائيل. وربّما كان هذا هو النهج الذي كان سيتّبعه في الصراع اليوم بين حماس وإسرائيل.
كيسنجر والاتفاقات المؤقتة
في عام 1973، تحرّك كيسنجر بسرعة للتوصّل إلى وقف إطلاق نار (استغرق الأمر 16 يوماً)، ثمّ أطلق عملية سلام. لكنّها كانت عملية استهدفت التوصّل إلى اتفاقات مؤقّتة، وليس اتفاقيات نهاية الصراع. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، ومن خلال الدبلوماسية المكّوكية التي لا تعرف الكلل، تفاوض على اتّفاقيّتين لفكّ الارتباط بين إسرائيل ومصر وواحدة بين إسرائيل وسوريا. وكان لهذه الاتفاقيات الأثر في إخراج مصر من الصراع مع إسرائيل، وتحقيق الاستقرار على الحدود بين إسرائيل وسوريا، وجعل من المستحيل على الدول العربية الأخرى أن تفكّر في العودة إلى الحرب. ومنذ ذلك الحين، تمّ الحفاظ على النظام الذي نجح في إنشائه بين إسرائيل وجيرانها العرب، وأسفر في النهاية عن اتفاقيات سلام مع دائرة واسعة بشكل متزايد من الدول العربية، وربّما مع المملكة العربية السعودية التالية على القائمة. لقد استغرق الأمر نحو 40 عاماً قبل أن تتوصّل معظم الدول العربية إلى اتفاق مع إسرائيل، وهو ما يثبت تحفّظات كيسنجر بشأن التسرّع في التوصّل إلى اتفاقات نهائية قبل أن يصبح جميع اللاعبين جاهزين.
لم يكن جميع اللاعبين في الشرق الأوسط على استعداد للتوافق مع نهج كيسنجر التدريجي خلال السبعينيات. كان الرئيس المصري أنور السادات والزعيمان الإسرائيليان إسحاق رابين، ولاحقاً مناحيم بيغن، حريصين على إنهاء الصراع بينهم، لكنّ كيسنجر رفض التساهل معهم. بعد ذلك، قبِل جيمي كارتر، المخلص لدعوات صنع السلام الرئاسية التي كان كيسنجر يخشى منها، التحدّي ونجح في التفاوض على الاختراق في كامب ديفيد الذي أدّى إلى معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية.
لقد سألت كيسنجر أخيراً عمّا إذا كان يشعر بأيّ ندم لعدم محاولته تحقيق هذا السلام بين مصر وإسرائيل. قال: “لا. لقد كنت سعيداً بحدوث ذلك، لكنّني كنت دائماً أخشى أنّه إذا دفعت الأطراف بشدّة نحو السلام فسوف ينتهي بي الأمر إلى كسر العملية”. وكانت تلك النزعة المحافظة الفطرية هي التي دفعته إلى اتّباع نهج تدريجي، حتى لو كان ذلك يعني تفويت فرص تحقيق اختراقات.
لقد تجلّت حكمة حذر كيسنجر في كامب ديفيد 2 في عام 2000، عندما حاول الرئيس بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، وفشلا، في فرض اتفاق بعيد المدى لإنهاء الصراع على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وهو ما أدّى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية. ومنذ ذلك الحين، غرق الإسرائيليون والفلسطينيون في صراع رهيب.
كيسنجر والحل في غزّة
ماذا كان سيفعل كيسنجر في مواجهة الحرب الحالية في غزة؟
كان سعيه إلى تحقيق النظام يركّز على العلاقات بين الدول. وكان لا بدّ من تحييد الجهات الثورية غير الحكومية، مثل حماس، وحرمانها من القدرة على تعطيل المنطقة. ويتطلّع بعد ذلك إلى الدول العربية المجاورة للعمل مع إسرائيل لإعادة تأسيس نظام أكثر استدامة. لقد أيّد إقامة دولة للفلسطينيين كوسيلة لحلّ الصراع في نهاية المطاف. لكنّه كان يؤمن بعملية تدريجية يكتسب فيها الفلسطينيون “سمات الدولة”، بناء مؤسّسات الحكم التي ستقودهم في النهاية إلى الحصول على الاستقلال.
كان من الممكن أن يكون أوّل من يحذّر من أية محاولة لإنهاء الصراع من خلال فرض حلّ الدولتين. وبدلاً من ذلك، كان ليريد عملية تبدأ من خلال إعادة الحكم الفلسطيني إلى غزة تحت وصاية تساعد فيها مصر والدول العربية الأخرى في الحفاظ على النظام. ولم يكن لديه أيّ اعتراض على الإبقاء على حلّ الدولتين كهدف نهائي، بشرط أن يفهم الجميع أنّه يجب أن تسبقه عملية بناء القدرات وبناء الثقة، خطوة بخطوة.
ساعدت سياسة كيسنجر الحذرة والمحافظة في إنشاء أسس النظام بين إسرائيل وجيرانها العرب، الذي صمد أمام اختبار الزمن. وعندما سيتصالح الإسرائيليون والفلسطينيون في نهاية المطاف، بعد وقت طويل من الآن لسوء الحظ، سيكون من الضروري أن نتذكّر أنّ دبلوماسية هنري كيسنجر للسلام ساعدت في إنشاء الإطار الذي جعل ذلك ممكناً.
***
كاتب المقال هو السفير الأميركي الأسبق في مصر وإسرائيل والمبعوث الأميركي السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط في عهد إدارة الرئيس بيل كلينتون عام 2013 واستقال من منصبه إثر تعثّر مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية بعد أقلّ من سنة من تكليفه. .. المقال نشر لأول مرة في صحيفة “واشنطن بوست الأمريكية