في عام 2013 تأسست في مدينة برن عاصمة سويسرا شركة تدعى «Need a problem»، وهي شركة مبيعات غريبة الأطوار؛ فهي شركة لبيع المشاكل!
رأى المؤسسون أن غياب المشاكل في الحياة يخلق حالة من الملل، ومن دون المشاكل تصبح الحياة بلا معنى، لذلك تجب مساعدة الذين لا مشاكل عندهم لإيجاد مشاكل تملأ حياتهم وتكسر الملل.
وضعت الشركة أسعاراً للمشاكل تبدأ من (1) يورو للمشاكل الصغيرة، وتزداد تدريجياً حتى خمسة آلاف يورو للمشكلات الكبيرة. وحسب موقع دويتش فيلله الألماني فإن الشركة باعت ألف مشكلة في أول مائة يوم!
لقد سخر عدد ممن سمعوا عن الشركة وتساءلوا: ولماذا لا يشترون منّا المشاكل.. فلدينا الكثير؟
في يونيو 2023 غرقت الغواصة تيتان، ومات الأثرياء الذين هبطوا لرؤية حطام السفينة تايتانيك في قاع المحيط الأطلسي، لم يكن في الغواصة أي متسع للحركة، وكانت بلا دورة مياه، ثم اتضح أن كل واحد منهم دفع (250) ألف دولار مقابل التذكرة الواحدة!
يُطلق الخبراء على هذا النمط «السياحة المتطرفة»، حيث المغامرات الخطيرة، من أعالي الجبال إلى قاع المحيطات، ومن الغابات المخيفة إلى حمم البراكين.
لم تعد السياحة الطبيعية جاذبة للأثرياء، إنهم يريدون الجديد، حيث لا تصل الطبقة الوسطى.
في عام 2023 وصل عدد الطائرات الخاصة التي وصلت جزر البهاما إلى نحو (20) ألف طائرة، كما زادت «سياحة المغامرات» على (300) مليار دولار.
يستثمر آخرون فيمن يشعرون بالملل، عبْر بيع تذكارات غرائبية، كطبيب الأسنان الكندي الثري الذي اشترى «ضرساً» لأحد المشاهير بأكثر من (30) ألف دولار، أو الفنانة ليدي جاجا، التي اشترت جهازاً كهرومغناطيسياً للكشف عن وجود الأشباح بمبلغ (50) ألف دولار!
لطالما ناقش الفلاسفة ظاهرة الملل، كما أن الساسة وجدوها ظاهرة خطيرة تهدد الأمن والاستقرار، فكان أباطرة الرومان يرون أن السياسة الحكيمة تتطلب أن يحصل الشعب على الخبز والتسلية معاً. وفي العصر الحديث كتب شوبنهاور كثيراً على أزمة الملل في العالم، ليس فقط ملل الانتظار، بل ملل الوجود نفسه.
ومن المثير أن أثرياء ومشاهير لا يعانون من أي شيء تقريباً، ثم سرعان ما تتكشف أمراضهم النفسية، وحالات الاكتئاب والإفراط في الكحوليات وتناول المخدرات، ثم سباق الانتحار. إنه الفراغ الروحي من دون شك، حيث اللادور واللامعنى، إذْ يمكن ببساطة لمن يشعرون بالملل أن يقرأوا الكتب، ويلتقوا الأصدقاء ويساعدوا الآخرين.
في كتاب «الفيتو الذهبي.. علم نفس الثراء» لجيسي اتش أونيل، ظهر مصطلح «متلازمة الطفل الغني»، والذي ينبّه لمخاطر التدليل والحماية المفرطة والإغراق بالهدايا، والذي من شأنه أن يضعف من شخصيته، ويدفعه نحو الملل والخطأ.
إن الملل هو جزء من طبيعة الإنسان، وكان رجال الدين المسيحي في العصور الوسطى يصفون الفتور الديني والكسل في العبادة بأنه «شيطان الظهيرة».
قد يكون الملل هو الوجه الآخر للقلق.. هو الخوف البارد والتوتر البليد، فالعولمة وما تحمل من اللايقين، والهرولة نحو المجهول، وإمكانية الهبوط بسرعة الصعود، هي مصدر للفزع والرتابة معاً.
لا حل سحرياً للأمرين، لكن دعم قرية فقيرة بدلاً من رؤية حطام تايتانيك.. كان يمكنه خلق سعادة أكبر وأعظم.. المساعدات الإنسانية يمكنها تحدّي شيطان الظهيرة.. الخير يقتل الملل.