فى مشهد من مسلسل رافت الهجان “أتهرس” على السوشيال ميديا يظهر فيه الفنان الجميل نبيل الحلفاوى الذى جسد دور صقر المخابرات العامة المصرية العظيم محمد نسيم الملقب ب “نديم قلب الأسد” وهو يحذر الفنان محمود عبد العزيز الذى جسد دور رأفت الهجان العميل الذى زرعته المخابرات المصرية داخل المجتمع ودوائر صنع القرار الإسرائيلية…
التحذير الذى وجهه قلب الأسد للهجان كان بضرورة الحرص من الشخصيات الإسرائيلية التى تبدو طوال الوقت غاضبة و مستاءة وحادة فى تعليقاتها على الأوضاع فى إسرائيل ودائمة النقد العلنى للقرارت والسياسات من منطلق أن هؤلاء يفعلون ذلك بدافع “الغيرة الوطنية الزائدة” و رغبتهم فى إصلاح الأوضاع و رشادة القرارات السياسية و الاولويات الغائبة التى قد تضر بأمن إسرائيل و تهدد حلم الوطن الأم وأرض الميعاد و أن هؤلاء يمثلون أكبر الخطر على مهمة رأفت الهجان و لن يرحمونه لو تم كشفه بواسطة أحدهم…
ما استوقفنى فى المشهد هو تحليل و رؤية و عقيدة واحد من أهم رموز و أساطير المخابرات المصرية الذى يرى فى هؤلاء قمة الوطنية و إستعدادهم الفطرى للزود عن أمن وسلامة دولة الإحتلال… و لن أزيد؛ و قد كانت شخصية السيد محمد نسيم – رحمه الله – التى عرفتها عن قرب ونشرت عنه عدة حلقات وحوارات فى الأهرام ويكلى تتسق مع هذا الفكر والرؤية وتتسق مع تم تجسيده فى المسلسل…
سألنى صديق مستفسرا عن تعليق لى على الفيس بوك يبدو له إيجابى عن فيلم “جولد مائير” رئيسة الوزراء الإسرائيلية بأن حرب أكتوبر 1973 و الملقبة بـ “أم اليهود” فما كان منى إلا و أضطررت أن أشرح له كيف أن إسرائيل لديها عقيدة فى ما يخص الدعاية والإعلام لا تقل أهمية عن السياسة و الإقتصاد و الهوس الأمنى والفعل الإستراتيجى… لقد حرصت الدولة الصهيونية حتى قبل إعلان الدولة على ذراعين يسبقان كل الأذرعة و هما: الإقتصاد و الإعلام… السيطرة المالية على الأسواق التى تساعدهم على التأثير على القرار السياسى و الأمنى و أولويات الحلفاء و الأعداء و تهدد استقرار الحكومات و الأنظمة إقتصاديا…
و الإعلام الذى يجسد المظلومية و الإضطهاد و المأساة و المعاناة التى يعاني منها اليهود على مر التاريخ و التى تتيح لهم حق الدفاع عن النفس فى كل زمان و مكان كى لا تتكرر المأساة و المذابح بهدف السيطرة على عقل و وجدان غالبية الرأى العام الدولى؛ وذلك بالتوازى مع الترويج للديموقراطية الإسرائيلية التى تحرص على تداول السلطة بين الأحزاب و التكتلات السياسية وقيمة صوت الناخب وتحارب وتكشف الفساد داخل مؤسسات الدولة فى منطقة جرداء ديموقراطيا و تعانى من تصحر السياسة و لا تعترف بكل أدوت و متطلبات الديموقراطية… تتنفق أو تختلف إلا أنها إلى حد كبير قد نجحت فى هذا بنسبة كبيرة إلا فى ما ندر نظرا لوجود نخب و حركات فى الغرب وبعض الدول النامية ترى الصورة الحقيقية لدولة الإحتلال و الممارسات الوحشية ضد الفسطينيين و الجرائم التى ارتكبتها عصابات اليهود ما قبل إعلان الدولة مرورا بكل المذابح من دير ياسين و صبرا و شاتيلا و قانا و غزة… إلخ إلخ إلخ…
الحرص الإسرائيلى الدائم على أن تسود روايتها للحدث أمام الرأى العام الدولى من خلال وسائط و وسائل لم تتأثر بالتطور التكنولوجى بل إستفادات منه من خلال منظومة إعلام و صحافة داخلية “أكسبتها” مصداقية كبيرة نتيجة إرتفاع سقف الحريات و النقد و الحيوية التى تبدو ظاهرة لمن يتابع المشهد من الداخل بعيدا عن كل التفاصيل التى يقف عندها من يرى نقيض ذلك؛ و فى الخارج أمتلك رموز اليهودية و الصهيونية عددا كبير من تلك الوسائل التى تدعم الرواية الإسرائيلية و تدافع عن وجهة نظرها فى كل القضايا و تمارس الضغط لتمرير المصالح و تهيل التراب على كل من يعادى دولة الإحتلال “شعوب و أنظمة”…
و قد جاء فيلم “جولدا” إتساقا مع تلك الرؤية و العقيدة و صنع بحرفية عالية وترجم إلى عدة لغات وتم تسريبه على نطاق واسع من أجل السبق فى كسب مساحات فى عقل و وجدان الرأى العام الدولى تؤسس فيها لبنيان كبير يجسد الرواية الإسرائيلية عن الحرب و كيف أنها لم تنتهى بالنصر المصرى الكامل و أنتهت بتوازن الكفتين رغم حرصهم على تمرير حالة الحيرة و الإرتباك و المفاجاة و التقصير فى الساعات و الأيام الأولى للحرب… و هو إستكمال لروايتهم فى كل مناسبة أنهم لم يخسروا الحرب مع تعميق و تمجيد الثغرة و رموزها من العسكريين الإسرائيليين… هذا هو السياق وتلك هى الرواية الإسرائيلية التى نختلف معها جذريا كمصريين و كعرب…
فى المقابل ماذا قدمنا من روايات متماسكة و مهنية و حرفية عالية للرأى العام الدولى عن حرب أكتوبر؟ و هنا لا أتحدث عن المعارك من الجانب العسكرى لأن العسكريين فى كل المعاهد والكليات العسكرية و مراكز الدراسات يعرفون قيمة المعركة و نتائجها… و كيف تعاملنا مع كل ناقد و غيور على المصلحة المصرية و الأولويات و يدعو للإصلاح و رشادة القرار و السياسة؟
لماذا خرجت منظومة الإعلام والصحافة خارج المنافسة على الساحتين الدولية و الإقليمية مقارنة بالإعلام و الصحافة الإسرائيلية؛ و لن أشير لغيرها على اعتبار أن الإعلام والصحافة هما أهم الأسلحة فى ترسانة أية دولة منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضى؛ و أصبحا مع بقية منظومة القوة الناعمة فى مقدمة عناصر القوى الناعمة للدول و تفوقت على منظومة العناصر الكلاسيكية و أستوعبت دولة صغيرة “مساحيا” مثل قطر هذ الدرس واستطاعت من خلال قناة الجزيرة و أخواتها – تختلف أو تتفق معها – من أن تخلق لها مكانة و حيز يفوق حجمها “مساحيا” بين الأمم و أوجدت الكاميرا و المراسل مكانا و حيزا و تأثيرا فى كل ملف وكل قضية و كل حدث؛ و فرضت من خلال أجندتها التحريرية أولويات و بدائل على الدول و فرضت أفكار و أشخاص و قوى سياسية؛ و حاربت أنظمة و حكومات و شعوب؛ و دعمت ثورات و فوضى و تخريب و إرهاب، كل هذا تحت راية الرأى و الرأى الأخر و بحرفية و مهنية عالية فى غالبية الأحيان… بينما عندياتنا تتعجب من أنه كيف شكل رأى عام داخلى ضد الإعلام والصحافة وأنها رجز من عمل الشيطان وتصوير العاملين فيها على أنهم سحرة فرعون وأنهم سبب خراب البلد و تدميرها؛ و أن إخضاعهم ضرورة وطنية و أمنية و ضمانة للإستقرار و تحقيق التنمية و كسب المعارك الخارجية!!!…
الواقع يقول اننا نمتلك الكوادر التى تستطيع أن تقود و تصيغ منظومة عمل و فكر مختلف أكاديميا و مهنيا تستطيع أن تنافس، ولكن الإعلام و الصحافة تكتسب قوتها و تأثيرها و دورها فى المجتمع و المحيط الإقليمى و الدولى من سقف الحريات والمناخ الذى يتاح لها و تعمل فيه مهنيا و تشريعيا و ضمانات الممارسة التى تكسب كل المنظومة المصداقية فى نقل الخبر والمعلومات و تحليها و نقدها، وقدرتها على التنوع و الإختلاف، و أن تكون منابر معبرة عن كل أطياف اللون السياسى و الفكرى؛ و تشتبك مع هموم و قضايا المواطن و تعبر عنه بصدق، وتمارس دورها الرقابى على كل الأداءات الرسمية و غير الرسمية… لأن القاعدة تقول أنه على قدر قوة و تأثير و مصداقية تلك الوسائل داخليا يكون لها القدرة و التأثير و المصداقية خارجيا لأنها تكون فى تلك الحالة “معبرة”… وفاقد الشىء لا يعطيه…
وكل سنة وأنت طيبين ودائما فى إنتصارات وتحيا مصر بجد…
جــلال نصــار
5 أكتوبر 2023؛ الذكرى الخمسين لإنتصار أكتوبر المجيد