جاءنا الآن
الرئيسية » جاءنا الآن » هانئ النقراشي يسطر: في ذكرى تحدى المستحيل

هانئ النقراشي يسطر: في ذكرى تحدى المستحيل


عندما بدأ قائد الجيش الإسرائيلي “حاييم بار-ليف” بناء حاجز رملي على ضفة القناة الشرقية في عام ١٩٦٩ سخر منه الخبراء العسكريون؛ قالوا: التاريخ أثبت أن الحواجز الثابتة لم تمنع خصما إذا كان مصمما على اختراقها وأمثال ذلك كثيرة من حائط الصين العظيم عبر قلعة “مارينبورج” في ألمانيا ذات الجدران بسمك ٣٠ مترا وأخيرا “خط ماچينو” الفرنسي الذي التفت الدبابات الألمانية حوله وتركته سليما.
ولكن تفكيره كان عكس ذلك لأن الوضع هنا مختلف، فالحاجز الرملي بخلاف البناء الأسمنتي لا يتأثر كثيرا من قصف المدفعية لأن القذائف لو انفجرت سيطير الرمل إلى أعلى ثم يهبط مكانه وإذا انغرست القذائف في الرمال دون أن تنفجر فهي إضافة لملايين الألغام الإسرائيلية التي تمنع أي مهاجم من تسلق هذا المانع الذي يبدو سهلا لأول وهلة، لأنه يخفي ما يضمره من اهلاك كل من يقترب منه.
إمعانا في إعاقة تخطيه وُضعت خزانات نابالم أسفل النقط المنيعة وفوقها مخزن الذخيرة يليها أماكن النوم وفوقها الغرف الدفاعية، بذلك كانت الذخيرة والنابالم على عمق كبير يتعثر معه تفجير أحدهما، وكانت حيلة النابالم هي خط الدفاع الأول في نظره لأن الخزانات كانت متصلة بطلمبات تدفع النابالم خلال أنابيب إلى سطح ماء قناة السويس، وهناك ينتشر النابالم بسبب خفة وزنه عن الماء المالح على سطح القناة فلا يبقى إلا إشعاله ليحوّل القناة إلى حاجز من نار يلتهم المهاجمين بقواربهم.
وعند افتراض تخطيه جدلا – وهذا مستحيل في نظره – خبأ عددا كبيرا من الدبابات في وديان في منتصف سيناء لكي تنطلق إلى مكان العبور أيا كان على طول القناة أو أي من شواطئ سيناء والقضاء فورا على أية محاولة لإنشاء رأس حربة، وهي بداية أي اختراق في الحروب.
أما الالتفاف حول خط بار-ليف كما حدث في الحرب العالمية الثانية لخط ماچينو فهو خارج التصور لأن نقل القوات بالسفن إلى شواطئ سيناء سواء الشمالية أو الجنوبية كما فعل الحلفاء عند غزو أوروبا في الحرب العالمية الثانية سيعرّض السفن للتدمير قبل أن تصل إلى الشواطئ نظرا لتفوق سلاح الجو الإسرائيلي، وهذا الأخير لم يكن يهاب شيئا إلا سلاح الدفاع الجوي المصري وهو الجيش الوحيد – حسب علمي – الذي يندرج في صفوفه بجانب الأسلحة التقليدية – القوات البرية والبحرية والطيران – سلاح الدفاع الجوي الذي ابتدعته عبقرية القيادة العسكرية المصرية لكسر شوكة السلاح الجوي الإسرائيلي. وسلاح الدفاع الجوي، رغم كفاءته الفذة، لا يصل مداه إلى شواطئ سيناء.
شعب مصر هو الوحيد بين شعوب الأرض الذي يستطيع أن ينهل من تاريخه الطويل والمتواصل تجارب وفلسفات تنفعه هو دون شعوب أخرى. هنا سطعت تجربة تحتمس الثالث عند غزو “مجيدو” في فلسطين، إذ كان بديهيا للأمراء المتحالفين ضده أنه سيزحف بجيشه على الطريق الساحلي المنبسط حيث أن الطريق الجبلي ضيق لا يمرر العربات الحربية ويسهل قطعه بعدد قليل من المدافعين، فمن المستحيل أن يخاطر بسلوك هذا الطريق، ولكن تحتمس فكر وخطط، فأمر بفك العربات الحربية وحمّلها على ظهور الخيل، وأرسل كشافته لتأمين الطريق الجبلي ثم سلك هذا الطريق … أي تغلب على المستحيل لمفاجأة العدو فتحقق له النصر.
بعد استعداد شاق أنشئت فيه قناة تشبه قناة السويس في مكان سري وبني على جانبيها سدان أحدهما رملي (بار-ليف) والآخر طيني – وهو يمثل السد الذي بناه الجيش المصري على الساحل الغربي للقناة ليخفي حركات القوات – وكل يوم تفتح فتحات متقابلة في السدين لتمرير معابر الدبابات وذلك لتدريب فريقين أحدهما للعمل نهارا والآخر للعمل ليلا، حيث لم يكن معلوما في أي وقت من اليوم ستنفذ العملية. وفي اليوم التالي يعاد إصلاح السدين ليعاد هدمهما في اليوم الذي يليه. واستمر الهدم والبناء مع قياس الوقت لعملية الهدم إلى أن اطمأنت القيادة على قدرة التنفيذ السريعة وبالكفاءة المطلوبة.


وذلك بعد استقرار الرأي على استعمال طلمبات الماء ذات الضغط العالي التي اقترحها اللواء باقي زكي يوسف لأنها كانت الأسرع في تجريف السد الرملي.
في هذه الأثناء تم اكتشاف مخطط أنابيب النابالم لإشعال القناة. فكلفت مجموعة الضفادع البشرية بالاستعداد للغطس في القناة ليلة الهجوم وضغط كميات من الأسمنت سريع الشك في فوهات الأنابيب التي تطل على سطح القناة لسدها تماما. هنا كان من الضروري الاعتماد على جودة التنفيذ من ناحية أن كل الفوهات يجب أن يتعطل سريان النابالم منها لأن فوهة واحدة تكفي لتغطية مساحة كبيرة من سطح قناة السويس بالنابالم.
وبدأ العبور الكبير وقت الظهيرة وهو التوقيت الذي يتعارض مع العلوم العسكرية التي تفترض أن أحسن الظروف لبدأ هجوم هو أول ضوء أو آخر ضوء، وأذكر بقصد “العبور الكبير” لأنه فعلا كبير فقد تفجر فجأة ٨١ موقعا في السد الطيني على طول القناة كلها، بمصاحبة زئير الطائرات التي مرت فوقه في اتجاه الشرق ودوي ألفي مدفع أطلقت في ٥٣ دقيقة ١٠٥٠٠ قذيفة لتدك خط بار-ليف دكا. أما العدو الذي بدأ جمع قوات احتياطه لإرسال جزء منها إلى الجبهة السورية والجزء الآخر إلى الجبهة المصرية فاستطلع الموقف ليعرف أين رأس الحربة لأن من غير المعقول – في نظره – أن ينشر الجيش المهاجم قواته على طول الجبهة فتضمحل شدة الاختراق المطلوبة في مثل هذه العمليات.
في هذه الأثناء تمكن خير أجناد الأرض من تسلق خط بار-ليف وتطهير النقاط الحصينة من المدافعين عنها. ولما كانت هذه النقاط متصلة ببعضها البعض تليفونيا، فكان كل موقع يسمع صرخات زملائه عندما تصيبهم نار قاذفات اللهب المصرية فيُسقط في أيديهم وينادون قادتهم لينجدوهم ولكن هيهات أن تأتي النجدة فتتحول النداءات إلى السباب لسوء تدبير قادتهم.
طال انتظار ظهور رأس الحربة – كما كان متوقعا من القيادة المصرية – بما هيأ الوقت الكافي لتقدم وحدات خاصة اختفت في ثنايا الصحراء ومعها أسلحتها المضادة للدبابات. اختبأت هذه الوحدات في طريق خروج الدبابات الإسرائيلية متجهة غربا إلى قناة السويس، وانتظرت بلا حراك إلى أن أصم آذان أفرادها صرير جنازير الدبابات المختلط بزئير محركاتها وهي تلهث متسارعة لتلحق بما أغفلته من ساعات قليلة وهو القضاء على أوهام قيادتهم عن “رأس الحربة”. ولكن تدريب هذه القوات منح أفرادها القدرة على تحمل كل ذلك دون ضجر إلى أن أتت اللحظة المناسبة التي يرى فيها المقاتل المصري دبابة عدوه على مرمى حجر، فيقفز من مخبأه معرضا نفسه – غير هائب – للدهس ليوجه قذيفته إلى موقع الضعف في الدبابة ويطلقها بالزاوية التي تجعل منها نارا متوهجة في داخل الدبابة. فلم تمض إلا دقائق وتوقف طابور الدبابات قبل وصوله إلى هدفه بمراحل، واستطاع أفراد الوحدة أسر قائد مجموعة الدبابات “عساف ياجوري” الذي ركع متوسلا: “اقتلوني برصاصة ولا تذبحوني” وذلك أن قادته أوهموه أن جنود مصر سيذبحونه لو ظفروا به. والذي حدث كان عكس ذلك تماما، إذ عولجت جراح الأسرى المصابين ونقلوا إلى القاهرة حيث تم استجوابهم من خبراء في اللغات السامية – أذكر منهم الدكتور حسن ظاظا أستاذ اللغات السامية بجامعة الإسكندرية – يتكلمون العبرية بفصاحة تفوق تصور أكثرهم لدرجة أن بعضهم أجهش بالبكاء عندما بهرته اللغة العبرية التي يتكلم بها المحقق المصري.
انتهى اليوم الأول بتحقيق الأهداف المحددة وتحولت مصر في ساعات معدودة من دولة تستجدي السلام إلى دولة تبدي استعدادها للتفاوض على سلام متكافئ وذلك بتعاون كل أفراد الشعب المصري الذين صاروا قدوة للأجيال التالية.
هانئ محمود النقراشي

عن الكاتب

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *