قاد “جيل زد” باكورة ظهوراته الاحتجاجية حول العالم، عبر احتجاجات الجامعات الأميركية ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأصبح علامة فارقة وغير مسبوقة في الحراك المجتمعي داخل الولايات المتحدة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين. لم يتوقفوا عند شل الحياة الجامعية لأسابيع متلاحقة، بل أرغموا بعض إدارات الجامعات على التوصل إلى اتفاقات لإنهاء شراكاتها مع إسرائيل، وكانت تحركاته هذا محركة للانتفاضات الشبابية حول العالم.
ويشير مصطلح “جيل زد” إلى الأفراد المولودين ما بين منتصف تسعينيات القرن الـ20 وبداية العقد الثاني من القرن الـ21. ووفقاً لمركز بيو للأبحاث، تحدد هذه الفترة عادة بين عامي 1997 و2012. وقد برز هذا الجيل في دول عديدة باعتباره قوة احتجاجية صاعدة، يقود حركات شعبية واسعة ضد الفساد والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية، تحول بعضها إلى تظاهرات سلمية حاشدة فيما شهد بعضها الآخر مواجهات دامية مع قوات الأمن في دول عدة.
شهدت المنظومة الإسرائيلية منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تغيرات كبيرة في آلية التفكير والأهداف المتعلقة بمعركة الوعي. كما برزت الحاجة الإسرائيلية إلى كسب الدعم الجماهيري، وقد لمست المؤسسات الإسرائيلية الرسمية والمحلية من كثب أن الأمر عند “جيل زد”، خصوصاً في الولايات المتحدة لم يعد يقتصر على مجرد التعاطف، كما الحروب السابقة على القطاع، بل تعدى ذلك لتوصيف السياسات الإسرائيلية في القطاع والضفة الغربية ووضعها في قوائم “جرائم الحرب” والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات الحقوقية الجسيمة.

ولم تكتف وزارة الخارجية الإسرائيلية بذلك، ففي محاولة جديدة لتعويض التدهور الحاد في مكانتها على الساحة العالمية منذ الحرب الأخيرة بدأت إطلاق واحدة من أكبر حملاتها في مجال “الدبلوماسية العامة” داخل الولايات المتحدة بالتركيز على جيل الشباب أو ما يعرف بـ”جيل زد” من خلال شركات أميركية، ومؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصصت لذلك موازنة ضخمة بلغت نحو نصف مليون شيكل (150 مليون دولار).
ففي استطلاعات لـ”نيوزويك” و”جينيريشن لاب” و”إنتليجينت دوت كوم”، وهي مؤسسات معنية بقياس الحياة العامة ومواضيعها المفصلية، تبين أن ثلاثة من كل خمسة طلاب يؤيدون الحق الفلسطيني، وواحد من كل 10 يشاركون في الاحتجاجات والفعاليات المناصرة للفلسطينيين، و65 في المئة من الطلاب يؤيدون الحراك الطلابي الداعم لفلسطين.
وفي آخر استطلاع أجرته “هاريس – هارفرد” و”هاريس – إكس” لاستطلاعات الرأي في نهاية أغسطس (آب) الماضي، عبر 60 في المئة من شباب “جيل زد” الذين تراوح أعمارهم ما بين الـ18 والـ24 عن تفضيلهم للفلسطينيين على إسرائيل.
ولهذا وأسياب أخرى، كشفت الحرب الأخيرة على قطاع غزة عن أن إسرائيل تحتاج إلى جانب استخدام أدوات القوة التقليدية والمباشرة، التركيز وبشدة على ساحة الوعي التي تزداد أهمية في ظل المساحة الواسعة التي تحتلها شبكات التواصل الاجتماعي. فالجيل الذي تفتح في عصر الليبرالية الجديدة، والذي يعتمد في معلوماته على مصادر الإنترنت المفتوحة وتبادل الخبرات، يحتاج وفقاً لمفاهيم وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى أسلوب نوعي وجديد في العهد الرقمي وعصر شبكات التواصل شديدة التأثير، كونها محلية وعابرة للحدود، إذ إن الدعاية الموجهة أو ما يعرف إسرائيلياً بـ”الهسباراه”، والدبلوماسية العامة أصبحت اليوم ذات أهمية قصوى لصد الهجمات السياسية والإعلامية ومحاولات المس بصورة إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، خصوصاً في ظل تراجع الدعم الشعبي لها داخل الولايات المتحدة، لا سيما بين فئة الشباب.

وأظهر استطلاع لمؤسسة “غالوب” في يوليو (تموز) الماضي أن 9 في المئة فقط من الأميركيين بين 18 و34 سنة يدعمون العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. وبحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية ، فقد تعاقدت تل أبيب أخيراً مع شركة أميركية لتنفيذ الحملة التي تركز بشدة على المحتوى الرقمي، ويخصص أكثر من 80 في المئة من المحتوى لـ”جيل زد” عبر منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب” و”البودكاست”.
وكشفت يديعوت أحرونوت أن المشروع، الذي أطلق عليه اسم “مشروع 545” يستهدف تحقيق نحو 50 مليون ظهور شهرياً، في إطار جهود لتعزيز النفوذ الإسرائيلي على الجمهور العالمي. ووفقاً لموقع “كوم سكور” لقياس الجمهور وعلم البيانات، فإن أعلى نسبة إلى مستخدمي الإنترنت عبر الهاتف المحمول من “جيل زد” على تطبيقات التواصل الاجتماعي موجودة على “يوتيوب”، حيث يزوره 84 في المئة منهم، يليه “تيك توك” بـ61 في المئة، و”سناب شات” بـ58 في المئة، و”إنستغرام” بـ56 في المئة ولا تزال منصات أخرى تحظى بنسبة كبيرة من هذه الفئة العمرية، حيث يصل “فيسبوك” و”إكس” إلى واحد من كل ثلاثة مستخدمين للإنترنت عبر الهاتف المحمول، و”بنترست” و”ريديت” إلى واحد من كل أربعة، و”لينكد إن” و”تويتش” إلى واحد من كل 10.
في حين بينت تقارير أخرى أن مواقع التواصل الاجتماعي تعد المصدر الرئيس للأخبار لـ”جيل زد”، حيث يتلقى 71 في المئة منهم أخباره اليومية من هذه المواقع مقابل أكثر من 90 في المئة من شباب هذا الجيل يلجأون إليها للأخبار بصورة أسبوعية، في عزوف هو الأكبر من نوعه عن متابعة مصادر الأخبار التقليدية، بخاصة وسائل الإعلام الأميركية الرسمية المحسوبة في معظمها على التيارات الصهيونية والمؤيدة لإسرائيل.
ويعني ذلك، وفقاً لمحللين وكتاب، إلمام الجيل الشاب بأساسات الصراع، فهو يقضي ساعات طوالاً على حساباته على هذه المواقع ويراها بوابته على العالم وطريقته للتأثير والتواصل وتغيير مجريات الأمور. ولذلك جرى تحديد هدف غير معتاد للحملة 454 من حيث مدى الوصول يقدر بنحو 50 مليون ظهور شهري للمحتوى.

وبحسب ما ذكره موقع “والا” الإسرائيلي فإن محاولة التأثير في كيفية استجابة أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل “شات جي بي تي” و”غيميناي” و”غروك”، هو من أكثر أجزاء الحملة إثارة للجدل إذ تهدف الشركة الأميركية المعتمدة لنشر الحملة إلى إنشاء مواد على الإنترنت يمكن أن تؤثر في البيانات المستخدمة بما قد يؤثر في الطريقة التي تعرض بها القضايا المرتبطة بإسرائيل.
وتخطط الشركة وفقاً للموقع الإسرائيلي لإنتاج محتوى ومواقع إلكترونية مصممة خصيصاً لمحادثات الذكاء الاصطناعي، في أسلوب جديد يعرف باسم تحسين محركات الذكاء التوليدي GEO يركز على التأثير في استجابات نماذج الذكاء الاصطناعي.
وتأتي الحملة الجديدة التي تديرها وزارة الخارجية الإسرائيلية امتداداً لمشروع “إستبر” الذي كانت قد بدأته مطلع العام الحالي عبر مؤثرين أميركيين على منصات التواصل الاجتماعي، ممن ينشرون محتوى مؤيداً لإسرائيل.
وبحسب التقرير الوارد بمجلة “ريسبونسيبل ستيت كرافت” الأميركية فإن وزارة الخارجية الإسرائيلية مولت عقداً بقيمة 900 ألف دولار لتشغيل ما بين 14 و18 مؤثراً بين يونيو (حزيران) الماضي ونوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. ويطلب من كل واحد منهم نشر 25 إلى 30 منشوراً شهرياً، ووفقاً للوثائق المنشورة قالت المجلة إن قيمة المنشور الواحد بعد خصم كلف الإنتاج والإدارة تقدر بين 6100 و7300 دولار.

وقال موقع “ويكيليكس” عبر وثائق إن نحو نصف قيمة العقد خصص لتجنيد وتدريب مؤثرين أميركيين على إنتاج محتوى مؤيد لإسرائيل، مقابل العمل بتنسيق مباشر مع شركاء إسرائيليين لصياغة الرسائل الدعائية. وكشفت الباحثة نيك كليفلاند – ستاوت، وهي زميلة بحثية في برنامج “دمقرطة السياسة الخارجية” في معهد كوينسي، أن هذه الحملات “تأتي في وقت يشهد فيه الرأي العام الأميركي تحولاً لافتاً ضد إسرائيل”.
في ظل تصاعد الانتقادات واتهامات الإبادة والتمييز العنصري عمدت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى تحسين صورتها المتدهورة على الساحة الدولية والاستعانة بشركة استطلاعات أميركية لإجراء بحوث. وبحسب تقرير نشر على موقع “دروب نيوز” الأميركي، وترجمته منصة “إيكو ريبورت”، خلصت الدراسة إلى أن الرأي العام في عدد من الدول ينظر إلى إسرائيل بوصفها “دولة إبادة جماعية وتمييز عنصري”، مما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى إطلاق حملة دعائية واسعة النطاق، شملت تنظيم أكثر من 7 آلاف و250 مقابلة شخصية في الولايات المتحدة، و2800 مقابلة في أوروبا، توزعت على بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، كما يجري تنفيذ 5600 مقابلة إضافية، لاختبار فاعلية الرسائل الدعائية التي تروج لها إسرائيل.
تضمنت الدراسة مرحلة تجريبية يعرض فيها على المشاركين مقاطع فيديو دعائية، بهدف قياس مدى تأثيرها في مواقف الجمهور، وتحديد الرسائل الأكثر قدرة على تغيير الانطباعات السلبية. وأظهرت النتائج أن تصوير “الإسلام الراديكالي” كتهديد عالمي، مقروناً بإبراز دعم إسرائيل لحقوق المرأة والمثليين، يرفع مؤشرات التأييد لها بأكثر من 20 نقطة في كل دولة بعد مشاهدة الرسائل الدعائية.
