محرر الشئون الخليجية
باعتبارها واحدة من أشهر قضايا الفساد في الكويت والخليج، 4 سنوات، بين نوفمبر/تشرين الثاني 2019 ونوفمبر/تشرين الثاني 2023، شهدت الكويت خلالها فصولاً متتابعة ومثيرة في قضية “صندوق الجيش” التي حظيت باهتمام سياسي وإعلامي وشعبي وإقليمى كبير، وانتهت الأحد الفائت بإدانات طالت مسؤولين كباراً، وشملت أحكاماً بالسجن ومبالغ غرامات وصلت إلى نحو مليار دولار
تفاصيل القضية المثيرة
بدأت القضية في نهاية 2019 عندما أحالها وزير الدفاع السابق الراحل الشيخ ناصر صباح الأحمد، ابن الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، إلى النيابة العامة، التي أحالتها سريعاً بعد أيام إلى محكمة الوزراء، المعنية بمحاكمة الوزراء، دون غيرها من المحاكم.
ترتبط الوقائع بالاستيلاء على مئات ملايين الدولارات من أموال “صندوق الجيش” المخصّص لمساعدة العسكريين، وطالت الاتّهامات رئيس الوزراء الأسبق الشيخ جابر المبارك ووزير الدفاع والداخلية السابق الشيخ خالد الجراح وضباطاً ومسؤولين في وزارة الدفاع.
ما هو صندوق الجيش المنهوب؟
“صندوق الجيش” هو مشروع تنموي اجتماعي، أُنشئ في وزارة الدفاع مع إنشاء الجيش في خمسينيات القرن الماضي، لتقديم خدمات اجتماعية وإنسانية للعسكريين، من مثل قروض تصل إلى 4 آلاف دينار للضبّاط (حوالي 13 ألف دولار)، و2,500 دينار لضباط الصف والأفراد (حوالي 8 آلاف دولار).
الكشف عن أدقّ التفاصيل في قضية “صندوق الجيش”، وصولاً إلى محاسبة رئيس وزراء ووزير دفاع سابقَيْن، يعكس جرأة في التعامل مع ملفّات الفساد في النظام الكويتى، يحسد عليه، وليس موجود في الإقليم إلا في دول قليلة جدا.
كما يتولّى الصندوق إقامة المناسبات الاجتماعية والعسكرية والمساهمة فيها، من مثل الاحتفالات الوطنية وتكريم ذوي الشهداء في الجيش، في حين أنّ الموازنة المخصّصة للصندوق تُحسم من موازنة وزارة الدفاع وكانت تُقدّر في البداية بـ5 ملايين دينار (حوالي 16 مليون دولار أميركي) سنوياً.
موازنة الصندوق الذى تم استهدافه
في مرحلة لاحقة، أُنشئت صناديق خارجية تابعة للصندوق في بعض الدول الغربية، مثل المملكة المتحدة، لدعم عمله ورفد العمل العسكري مع تلك الدول، وجرت زيادة الموازنة إلى الضعف تقريباً.
أُعطيت صلاحيات الصرف من الصناديق إلى وزير الدفاع، أو من يفوّضه، على أن تُرفع الحسابات إلى وزارة الدفاع قبل إغلاق حسابها الختامي.
تسلسل القضيّة المليارية المثيرة وصراع أجنحة الأسرة الحاكمة
في 14 تشرين الثاني 2019، اتُّخذ أوّل إجراء قانوني، بعد سلسلة من التقارير في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، مع إحالة الملفّ إلى النيابة من قبل الشيخ ناصر صباح الأحمد. وقيل الكثير حينذاك عن تصفية حسابات بين أقطاب بارزين في الأسرة الحاكمة، لأنّ الشيخ ناصر ابن الأمير الراحل ومَن تُوجّه إليهم أصابع الاتّهام بالتقصير وتبديد المال العامّ هم أيضاً من الأسرة الحاكمة.
أدّى ذلك إلى سقوط الحكومة ورحيل جميع المعنيين بالقضية عن السلطة السياسية، في حين تابع القضاء مجرياته، وقضت محكمة الوزراء في أبريل/نيسان 2021 بحبس جابر المبارك، وهي سابقة في تاريخ الكويت أن يتمّ توقيف رئيس وزراء سابق على خلفية قضية اختلاسات.
بعد نحو 5 أشهر، أي في تشرين الأول 2021، بدأت أولى جلسات المحاكمة، ووافقت المحكمة حينها على إخلاء سبيل جابر المبارك لأسباب صحّية، واعتُبر وجوده في المستشفى نوعاً من تحديد الإقامة.
بعد أقلّ من سنة، تحديداً في 8 مارس/آذار 2022، صدر حُكم من قبل محكمة الوزراء ببراءة جميع المتّهمين في القضية، استناداً إلى أنّ الأموال التي صُرفت من الودائع والحسابات تمّ التصرّف بها في “أمور تتعلّق بالأمن القومي والمصالح العليا للدولة”، وهو ما جعلها بمنأى عن الرقابة.
لكنّ هذا الحكم، الذي أثار غضباً نيابياً وشعبياً، لم يكن نهائياً، إذ طُعن به أمام محكمة التمييز، التي قالت كلمتها النهائية يوم الأحد الماضي، في حكم وصفه البعض بالتاريخي وغير المسبوق، إذ قضى بإدانة 8 من أصل 9 متّهمين، مع حبس 6 منهم لمدّة 7 سنوات، والامتناع عن النطق بالعقاب بحقّ اثنين، أحدهما الشيخ جابر المبارك.
تفاصيل الحكم التاريخى
خلصت محكمة التمييز إلى إدانة 8 متّهمين في غالبية التهم المنسوبة إليهم، من بينهم 6 أحدهم وزير الدفاع والداخلية السابق خالد الجراح، وقضت بسجنهم لمدّة 7 سنوات، مع إلزامهم بردّ مبالغ تصل قيمتها إلى 80 مليون دينار (حوالي 260 مليون دولار) وتغريمهم ضعفها.
أمّا المتّهمان الآخران، أحدهما رئيس الوزراء الأسبق جابر المبارك، فقد قضت المحكمة بالامتناع عن النطق بالعقوبة بحقّهما، مع دفع كلّ منهما كفالة 10 آلاف دينار (حوالي 32 ألف دولار).
وصلت الغرامات بحقّ المبارك ومتّهمين آخرين إلى 22 مليون دينار (حوالي 71 مليون دولار أميركي)، علماً أنّ “الامتناع عن النطق بالعقاب” يعدّ عملياً إدانة مع تخفيف العقوبة. ويعني ذلك أنّ المبارك الذي تولّى رئاسة الوزراء لنحو 8 سنوات (بين 2011 و2019)، ويحمل لقب “سمو”، هو أوّل رئيس وزراء يُحاسب عن ملفّات وقضايا مرتبطة بفترة تولّيه منصبه.
قوة القضاء الكويتى رغم تسييس القضية
أثبت القضاء الكويتي، بهذا الحكم، أنّه سلطة قويّة قادرة على إدانة كبار المسؤولين، أيّاً تكن الحسابات السياسية، وأنّ مجلس الأمّة يبقى أحد العناصر الفاعلة في المنظومة السياسية، أيّاً تكن الظروف، لأنّ الضغط النيابي هو الذي دفع بالقضية إلى خواتيمها.
تهديد القاضي
في مؤشّر إلى ضخامة القضية وحراجة الموقف، شهدت الكويت حادثة غير مألوفة، قبل أيام من صدور الحكم، تمثّلت في إحراق سيارة رئيس محكمة التمييز التي أصدرت الحكم المستشار سلطان بورسلي، وهي رسالة قرأ البعض في ثناياها ترهيباً للقاضي ومحاولة لثنيه عن إدانة المتّهمين، وهو ما لم يحصل.
حدثٌ له ما بعده
ما بدأه ناصر صباح الأحمد، الذي توفّي في 20 كانون الأول 2020، شكّل مدماكاً أوّل في تخطّي الخطوط الحمر بمحاربة الفساد، وأعطى دفعة قوية لجميع المسؤولين الذين جاؤوا بعده للقيام بخطوات مماثلة، لا سيما أنّ الكثير من قضايا الفساد تطفو على السطح في الكويت بين الحين والأخر، من مثل قضيّتَي غسل الأموال المعروفتين بـ”الصندوق الماليزي” و”النائب البنغالي”، وسط مؤشّرات إلى ضلوع مسؤولين كبار في كثير من هذه القضايا.
الكشف عن أدقّ التفاصيل في قضية “صندوق الجيش”، وصولاً إلى محاسبة رئيس وزراء ووزير دفاع سابقَيْن، يعكس جرأة في التعامل مع ملفّات الفساد، وربّما تشهد الكويت في المستقبل أحكاماً مشابهة في قوّتها، لا سيما أنّ الرأي السائد هو أنّ الفساد المستشري يشكّل العائق الأكبر أمام تقدّم البلاد ودوران عجلة التنمية فيها.