وحدة الرصد السوشيالى والافتراضي
هل تتذكرون “إسراطين” ؟! .. ذلك المصطلح الغريب الذي ردده الزعيم الليبي الراحل ” معمر القذافي” على مسامعنا خلال إحدى القمم العربية ، وكانت ردود الفعل تجاهه درامية وساخرة ! .. وكان يقصد به كيان واحد جامع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، لا دولتين بل دولة واحدة ، رغم الحديث الذي أصمونا به عن الحرب الديموغرافية والطبوغرافية !!! .. فقط نقول لمن كان يسخر من القذافي أن هناك مقالات عديدة لقيادات في الإدارات الأمريكية المتتابعة تكشف عن أن هذا السيناريو المسخ في تصور البعض، كان التصور الدائم لدى الأمريكيين في الغرف المغلقة ، وبعض الإسرائيليين لا يستبعدونه في مفاجأة كبيرة حتى للمتخصصين ، وها هم يعيدونه الآن ، إما في بالون اختبار جديد ، أو ضمن استعراض سيناريوهات المشهد المختلفة ، والتى من أعقدها على الجميع أولهم إسرائيل حتى قبل الفلسطينيين ، استمرار الحرب !
وكأن القذافي يطل برأسه من قبره الآن ، ويقول للبعض أدركتم الدرس الذي أعطيتكم إياه من حوالى ربع قرن ، متسائلا ، ماذا ستفعلون معهم لو خيروكم بين دولة فلسطينية مسخ ، وكيان مسخ آخر يجمع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، ونموذج فلسطيني الداخل موجود للمقارنة الإيجابية والسلبية ، لو تريدون الميزان أو التقدير السريع ؟!
استعرضنا العدد الأخير من مجلّة الشؤون الخارجية الأميركية (فورين أفيرز)، وكانت به عدّة مقالات لكتّاب معروفين ، وكانت مليئة بالمفاجآت حتى لبعض المتخصصين ، حيث تحدثت المقالات عن الاحتمالات الثلاثة للأوضاع في غزّة والقضيّة الفلسطينية: إما استمرار وضع الحرب على ما هو عليه، أو المصير إلى الدولة الواحدة للعرب واليهود، وأخيراً حلّ الدولتين. وقد أطال مارتن إنديك في فحص حلّ الدولتين من حيث المشكلات والميزات: فهل إلى خروجٍ من سبيل؟
يكاد نصف العدد الأخير من مجلّة الشؤون الخارجية الأميركية (فورين أفيرز) يتركّز على أحاديث عن حرب غزّة ومآلاتها. ما عاد أحد مع استمرار الحرب:
– حتى مارتن إنديك الصهيوني والموظّف الكبير السابق في الإدارات الديمقراطية يرى أنّ استمرار الحرب يمنع التفكير والتقدير. قال إنّ الإحياء العجيب لفكرة الدولتين بحيث يقال إنّ هذه الحرب غير المعقولة هي التي ستنتج السلام الوحيد الممكن!
– أمّا مارك لينش فما يزال يتلمّس أملاً في “شبح” الدولة الواحدة للعرب واليهود.
– في حين يذهب ألوف بن إلى أنّ إسرائيل تدمّر نفسها.
– ويذهب سنام وكيل وزميلته إلى أنه لا حلول من خارج الشرق الأوسط بعد خروج أميركا وإنتاج نظام إقليمي جديد.
لماذا غيّر مارتن إنديك رأيه؟
كان مارتن إنديك مشاركاً دائماً في محادثات الوساطة الأميركية. وكان دائماً حبيباً لإسرائيل. وفي السرّ نصيراً لحلّ الدولة الواحدة للعرب واليهود. وكان يعرف أنّ التوتّر في حلٍّ كهذا سيستمرّ لصراع القوميّتين. لكنّ المصلحة الإسرائيلية تقتضي ذلك. إذ لا وجود ممكن لدولتين غرب نهر الأردن.
أمّا الآن فرأيه (في “فورين أفيرز”) على عكس ذلك تماماً بعد ابتعاده لعدّة سنواتٍ عن الإدارة. فالدولة الواحدة يستحيل معها بقاء الطابع اليهودي للكيان. وإسرائيل ما قامت إلّا من أجل وطنٍ قوميّ لليهود. فالدولة الواحدة للشعبين ليست ممكنةً بالنسبة لإسرائيل. كما أنّ العرب يطمحون إلى كيانٍ لهم مستقلّ. والوضع الحاليّ (الاحتلال والملاحقات) لا يمكن استمراره. فهو متعبٌ عسكرياً وأمنيّاً واقتصادياً وإنسانيّاً.
مع أنّ مارتن إنديك يشكّ في قدرة الفلسطينيين على الاتفاق فيما بينهم، لكنّه يرى أنّ المسؤولية على أيّ حال تنزاح عن صدور الإسرائيليين
صحيح أنّ عسكرة المجتمع الإسرائيلي قائمة. لكنّها أُعدّت في الأصل لمصارعة كلّ الدول العربية، وبخاصّة دول الطوق. أمّا الآن فلا يقاتل من أجل فلسطين غير الفلسطينيين. وما عاد استمرار الاحتلال ممكناً لأنّك تجلس على خزّان بارود وجارك الذي تحتلّ أرضه وتهدّد مقدّساته هو الذي يواجهك عن قرب. وكانت السمعة لإسرائيل أنّ كيانها هو الأكثر حرصاً في العالم على حياة مواطنيه الذين يبقيهم تحت السلاح حتى الستّينيات من أعمارهم.
أمّا الفلسطينيون وقد تنامى لديهم الظلم، فقد صاروا الأحرص على الموت (!). وكان الرهان أن يهاجر الفلسطينيون بالتدريج. لكنّهم صمدوا وصاروا أكثر صلابة. ولذلك لا يبقى في مجال التصوّر غير حلّ الدولتين.
يقول إنديك إنّ من العجيب أنّنا (يعني اليهود) نسينا حلّ الدولتين، واعتبرنا أنّ أحكام الطوارئ في الضفة والقدس وحصار غزّة والحرب عليها كافية. وهو وهمٌ مثل الوهم أنّ الفلسطينيين ستتضاءل أعدادهم تحت وطأة ضغوط الاحتلال والإدارة الاستعمارية واضطهادات المستوطنين. وفي الخلاصة لا يبقى غير حلّ الدولتين حيث تكون لإسرائيل ضمانات أمنيّة، ويستطيع الفلسطينيون أن يديروا شؤونهم بأنفسهم.
ومع أنّ مارتن إنديك (في “فورين أفيرز”) يشكّ في قدرة الفلسطينيين على الاتفاق فيما بينهم، لكنّه يرى أنّ المسؤولية على أيّ حال تنزاح عن صدور الإسرائيليين. ولا يظلّون يُعيَّرون بالاستعمار والاضطهاد الديني والاقتصادي.
وعلى عكس الآخرين يرى إنديك أنّ العمّال الفلسطينيين في إسرائيل هم فرصة لعلاقات أفضل. ومشكلاتهم أسهل من مشكلة الفلسطينيين وراء الخطّ الأخضر. الذين يبلغ عددهم حوالى 20% من مجموع سكّان الكيان وينظر إليهم الإسرائيليون شزراً كأنّهم غرباء عن الأرض أو هم لاجئون عليها!
هكذا تبدو استفاقة فكرة الدولة لدى الإدارة الأميركية مفاجئة. لكنّها على صعوبتها هي الحلُّ المنطقيّ والوطني. لكنّ إنديك يرى أنّ الاضطراب بين الكيانين سيستمرّ، ويحتاجان دائماً إلى وسيط.
حلّ “الدولة الواحدة”…
أمّا مارك لينس وشبلي تلحمي فيذهبان إلى أنّ حلّ الدولتين خيالي، ويحتاج إلى جهود جبّارة. ولذلك هما مع حلّ الدولة الواحدة ولو كانت أعداد الفلسطينيين 50%. فالفلسطينيون سيتذمّرون في البداية، لكن عندما تتحسّن شروط حياتهم، وهي أفضل الآن من ظروف شرق الأردن، فسيجدون أنّ من الأفضل المشاركة في دولةٍ ديمقراطية، بدلاً من استمرار النضال إلى ما لا نهاية. وإذا قيل: لكنّ الدولة الوطنية ضرورة شعبية، فسيقال: انظروا إلى الدول الوطنية المحيطة بفلسطين، وأيّها الأحسن حالاً!
يرى المحلل الإسرائيلي ألوف بن أنّ إسرائيل تدمّر نفسها، وأنّها تحتاج إلى الحروب ليظلّ الناس معاً، وإلا تسارعت الحروب الداخلية. فهناك أربع كتل تقوى وتزداد ولا تعتبر الصيغة الحالية للحكم ملائمة: المتديّنون المتشدّدون، والمستوطنون، والمثقّفون الخائفون من الفوضى على مستقبل الكيان، واليمين الليكوديّ المضطرّ دائماً إلى التطرّف حتى لا يكتسحه المتشدّدون!
سموترتش وبن غفير ونتانياهو
أمّا الكتل الليبرالية فهي مشرذمة إلى أبعد الحدود وإن جمعتها التظاهرات السابقة على حرب غزّة من أجل الحفاظ على “حكم القانون”. وصحيح أنّ الوزيرين الإسرائيليين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير متشدّدان، لكنّ نتنياهو هو صاحب القسط الأكبر في التأزيم. إذ يبقيه التأزيم في السلطة فيما يقال. فمن طريق شنّ الحرب على حماس يأمل صعود شعبيّته ومنع أو تأخير انطلاق المحاكمة ما دام في السلطة.
وهذا الوضع غير المستقرّ بالداخل الإسرائيلي يجمع من جهة خوفاً من استفادة المتطرّفين الفلسطينيين. لكنّ التوتّر والاستنفار يسيئان للوضع الاقتصادي، وتخسر إسرائيل سنويّاً آلاف الكوادر المتعلّمة.
الكتل الليبرالية فهي مشرذمة إلى أبعد الحدود وإن جمعتها التظاهرات السابقة على حرب غزّة من أجل الحفاظ على “حكم القانون”
أصعب المشروعات في اعتقاد الفلسطينيين الآن التهدئة والتأجيل. إذ يرى سنام وكيل وداليا كاي أنّ أميركا على الرغم من عسكرها واقتصاداتها بالمنطقة، فإنّها تفقد النفوذ باستمرار وليس لمصلحة روسيا والصين، بل لمصلحة دول المنطقة. ولذلك يكون الرأي أن تتسالم الدول وتهتمّ بحلّ مشكلاتها. وبخاصّةٍ أنّ حدودها ثابتة، وعلاقتها مع الولايات المتحدة وحتى روسيا أكثر توازناً. إنّما من الذي يتولّى التنظيم والقيادة؟ يرد إلى الذهن دول الجامعة العربية، لكنّ إيران لا تقبل، وقد تقبل تركيا بشروط.
من جولات وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن والمسؤولين الكبار الآخرين، تكوّنت لديهم فكرة ليس عن إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية بل وأيضاً عن دور كلّ دولة في دائرة جديدة. وقد اجتمعت اللجنة السداسية العربية المختصّة بفلسطين في القاهرة وقابلت بلينكن.
الأميركيون متحمّسون لحلّ الدولتين. ليس من أجل حلّ النزاع فقط، بل ومن أجل إيقاظ دورهم في المنطقة بعدما توالت عليهم التحدّيات من كلّ صوب.
فهل يحدث شيء حقّاً؟
كلّ شيء بطيء إلّا استعمال السلاح… ويبقى الغموض الأكبر في الموقف الإسرائيلي ومصائر الحكومة ونتنياهو والانتخابات المبكرة والمستقبل.