تحرير الجيش السوداني مقرّ الإذاعة والتلفزيون في أمّ درمان ومناطق محيطة بها واتجاهه للجزيرة ، لتحريرها من ميلشيا الدعم السريع، نصر استراتيجي معنوي وعسكري. وهو يفتح الطريق أمام استعادة الضلعين الآخرين من عاصمة السودان المثلّثة: الخرطوم، وخرطوم بحري.
ومؤدّى ذلك إلغاء سياق إنهاء الحرب بالحوار والتفاوض، وسيادة منطق الحسم العسكري. مع ما سيترتّب على ذلك من نتائج سياسية بالغة التعقيد في الداخل خاصّة. فما هو دور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في هذا الإنجاز النوعي؟
اضطرّ رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، إلى الخروج من مقرّه المُحاصَر في القيادة العامّة للجيش بالخرطوم، عاصمة السودان. وذلك في 24 آب العام الماضي، بمساعدة من القوات الخاصة الأوكرانية. وطبعاً بتوجيه من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. على ما ذكر تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” في 6 آذار الجاري.
وفي هذا دلالة واضحة على حرج الموقف العسكري للجيش آنذاك أمام الطوفان البشري لقوات الدعم السريع. هي التي سيطرت على معظم إقليم دارفور في الغرب عقب احتلال معظم العاصمة ومقارّها الحيوية والسيادية، في أولى الأيام الحرب. في 15 نيسان العام الماضي. ثمّ سيطرت على معظم ولاية الجزيرة، العصب الاقتصادي للسودان، في 15 كانون الأول الماضي.
اضطرّ رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، إلى الخروج من مقرّه المُحاصَر في القيادة العامّة للجيش بالخرطوم، عاصمة السودان
أمّا الاتفاق مع إيران في تشرين الأول المنصرم على عودة العلاقات الدبلوماسية، وتصدير مسيّرات “مهاجر 6″ إلى الجيش، وصولاً إلى زيارة وزير خارجية السودان علي الصادق علي لطهران في 5 شباط الماضي، وهو أرفع مسؤول سوداني يزور الجمهورية الإسلامية منذ قطع العلاقات بينهما عام 2016، فهو بمنزلة إعلان مرحلة جديدة من الحرب. بحيث تغيّر المشهد العامّ تباعاً بين العدوّين اللدودين الجيش و”الدعم”.
وذلك حين بدا الميزان مائلاً منذ ذلك أكثر نحو الجيش. بعدما مالت الكفّة بقوّة في نهاية 2023، نحو ميليشيا آل دقلو وعلى رأسهم محمد حمدان “حميدتي”. وكان من عواقب ذلك، استحواذ قائد الدعم السريع على ما يشبه الاعتراف به قائداً جديداً للسودان. حين استقبله بحفاوة زعماء أوغندا وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا، في جولة بدأت في 27 كانون الأول الفائت.
أخطاء البرهان ونجاحاته
ماذا عن الأداء السياسي والعسكري، لغريم حميدتي، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، منذ تسلّمه رئاسة مجلس السيادة في السودان عام 2019؟
قيل الكثير عن عثراته وأخطائه، وأبرزها اثنتان:
- الأولى: الانقلاب على الحكومة المدنية في 25 تشرين الأول عام 2021، واعتقال رئيس الحكومة نفسه، عبد الله حمدوك. قبل أن يضطرّ إلى التراجع جزئياً، بسبب ضغوط خارجية وتوتّرات داخلية.
- والثانية: سلسلة من الأخطاء العسكرية المميتة. مثل ترقيته حميدتي إلى رتبة فريق. وهو لم يدخل السلك العسكري مطلقاً. وبسط المجال له بشكل غير مسبوق والسماح بانتشار قواته في العاصمة. ثمّ اضطراره إلى القتال المرير مع قواته الخفيفة التسليح والسريعة الحركة، بأساليب غير مناسبة. واعتماده الأساسي على سلاح الطيران لحسم المعركة. وهو ما ظهر فشله الذريع.
يعتبر الخبراء العسكريون أنّ ما عدّل ميزان القوى بين الجيش وميلشيا الدعم، هو لجوء البرهان إلى إيران من أجل الحصول على السلاح النوعي المناسب للحروب المعاصرة
أمّا ما تردّد عن محاولة انقلابية على البرهان الشهر الماضي، في أمّ درمان، وهي التي لم يُحدّد تاريخها الدقيق ولا مصير المتورّطين فيها. فإنّ القراءة الشاملة لمسار الأحداث منذ تساقط المواقع السيادية للدولة، ومنها إذاعة أمّ درمان ابتداء من 15 نيسان من العام الماضي،
وإلى حين تحرير الإذاعة نفسها في الثاني من رمضان الجاري، فيمكن التكهّن بأنّها كانت من قبيل التذمّر والتململ من عدم حسم البرهان الخيارات والوسائل. وذلك في مواجهة أخطر تمرّد عسكري في السودان، كما أنّه هو الأشرس، والأشدّ ضراوة.
زيلينسكي عدّل الميزان
يعتبر الخبراء العسكريون أنّ ما عدّل ميزان القوى بين الجيش وميليشيا الدعم، هو لجوء البرهان إلى إيران من أجل الحصول على السلاح النوعي المناسب للحروب المعاصرة (الطائرات بلا طيّار). وتجنيد القوى الشعبية من دون تمييز. لملء الثغرات الميدانية الواسعة في الجبهات، بسبب نقص الجنود.
فلمّا توفّر العدد من خلال المستنفَرين، أو المقاومة الشعبية التي تضمّ شتّى التوجّهات الأيديولوجية. وانضوى في صفوفها عسكريون سابقون ومتطوّعون متحمّسون. كما وصلت شحنات السلاح من المسيّرات الإيرانية، بعد المسيّرات التركية. حينها تمكّنت قوات الجيش وكتائب المقاومة من فكّ الحصار عن كتيبة المهندسين في أمّ درمان في 16 شباط الماضي، بعد اختراق السوق القديم. ثمّ حُرّرت الإذاعة بعد الإطباق عليها من كلّ جانب.
بل وقعت أرتال الدعم السريع في فخّ محكم نصبته المسيّرات الإيرانية، على الأرجح. فسقط المئات من أفراد الميليشيا في “طريق الموت”. عندما حاولوا الانسحاب بشكل جماعي من مقرّ الإذاعة والمناطق المحيطة بها.
لكنّ القرار الاستراتيجي الذي اتّخذه البرهان قبل عامين كان له أبلغ الأثر في قلب الأوضاع رأساً على عقب. وهو دعم أوكرانيا سرّاً بالسلاح عندما اجتاحها الجيش الروسي بحسب “وول ستريت جورنال”. على الرغم من العلاقات الجيّدة مع روسيا.
من الناحية العسكرية، فإنّ السيطرة على كامل أمّ درمان، بدعم من زيلينسكي، في الأيام المقبلة، ستتيح لجيش السودان والقوات الرديفة الإطباق على ميلشيا الدعم السريع
لذا عندما نشبت الحرب مع الدعم السريع، أرسل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قوات خاصة مع ضباط استخبارات. وذلك لمساعدة جيش السودان في الخرطوم، ولمقاتلة مرتزقة فاغنر الروسية. وكان هذا مفيداً للغاية، إذ كان الجنود الأوكرانيون هم الوحيدين في الميدان ممّن يستعملون المناظير الليلية. ودرّبوا السودانيين على استعمال المسيّرات.
ووفّروا لهم بعض المسيّرات التركية من نوع بيرقدار. والأهمّ أنّهم أخرجوا البرهان من مقرّه المحاصَر في الخرطوم، فالتقى زيلينسكي في إيرلندا ليشكره على صنيعه.
بداية الحسم العسكريّ؟
من الناحية العسكرية، فإنّ السيطرة على كامل أمّ درمان، بدعم من زيلينسكي، في الأيام المقبلة، ستتيح لجيش السودان والقوات الرديفة الإطباق على قوات الدعم السريع المتحصّنة في الخرطوم وخرطوم بحري. فلا يبقى أمامها إلّا الاستسلام أو تكرار محاولة الفرار التي وقعت قرب الإذاعة. وسيكون لتحرير العاصمة المثلّثة، وقع كبير على معنويات قوات الدعم السريع، في كلّ الجبهات. كما أنّ آثاره السياسية ستكون أشدّ إيلاماً، لأنّ من يسيطر على العاصمة، تعظم شرعيّته السياسية في الداخل والخارج.
وتتضاءل الأحجام السياسية لحميدتي والمتحالفين معه ضمناً من القوى المدنية. التي تخوض معركتها الإعلامية والسياسية، على قاعدة رفض الحرب، والتشكيك في قدرة الجيش على مقارعة الدعم السريع. وعلى هذا، كلّ إنجاز عسكري للجيش، هو ضربة سياسية للطامحين إلى تغيير النظام السياسي من جذوره. وإلى تفكيك الجيش نفسه، وكلّ الأجهزة الأمنيّة، وإعادة تشكيلها وفق قواعد ورؤى مختلفة. وكأنّ انتصار الجيش هو إعادة إنتاج نظام البشير الذي أسقطته الثورة الشعبية أواخر عام 2018.
أخطاء القوى الثورية المدنية
في واقع الأمر، أخطأت القوى الثورية المدنية في رهانها على هزيمة الجيش وتغلُّب قوات الدعم، من أجل صياغة جيش جديد ودولة جديدة. باستثناء الفلول أو “الكيزان” من السودان الجديد. ويقصدون بها ليس فقط حزب المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس السابق عمر البشير. بل كذلك أركان مكوّنات الانقلاب العسكري عام 1989 على حكومة الصادق المهدي. سواء من كانوا موالين لحسن الترابي أو معارضين للبشير، إثر الشقاق الحادّ بينهما، عام 1999.
أخطأت القوى الثورية المدنية في رهانها على هزيمة الجيش وتغلُّب قوات الدعم، من أجل صياغة جيش جديد ودولة جديدة
هذا الرهان على حميدتي يرجع إلى عدّة أسباب. بغضّ النظر عمّا يقال عن ارتباطات خارجية لقيادة الميليشيا تتقاطع مع الحراك المدني. وأبرزها أنّ حميدتي جزء من النظام السابق. ومقتدر ماليّاً وعسكرياً. ومؤهّل لضرب الجيش وتفكيكه. بحكم دوره السابق كحارس لأمن النظام. وانتشاره في المواقع الحيوية والاستراتيجية في العاصمة نفسها.
وقد صدقت الرهانات منذ الأشهر الأولى لانطلاق الحرب الضروس. إذ إنّ لجوء الدولة السودانية منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1955، إلى القبائل العربية، لا سيما في دارفور وكردفان، في مواجهة حركات التمرّد، في الجنوب والغرب، يستبطن الحاجة المزمنة إلى الجنود المشاة في الميدان.
فبلد كبير مثل السودان (أكثر من مليون و800 ألف كلم مربّع)، وشديد التنوّع عرقياً وثقافياً ودينياً، لا يكفيه جيش احترافي محدود العدد.
وإذا كان البشير قد استعان بالجنجويد في دافور عام 2003. ثمّ بقوات الدعم السريع. للحفاظ على وحدة البلاد من أخطر حركة تمرّد بعد انفصال الجنوب… فإنّ ثورة عام 2019 فاقمت الحاجة إلى هذه القوات، للتصدّي والقمع.
أمّا سقوط الرهان على الدعم السريع، مطيّة للتغيير في السودان، فسيعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فما ارتكبته قوات الميليشيا في ولايات السودان، من نهب واغتصاب، أحيا في السودانيين ارتباطهم بالجيش كمؤسّسة ضامنة للأمن والاستقرار. بغضّ النظر عمّن يقود البلاد.
*مفكر إسلامى
***المقالات مساحات ورؤي خاصة بكتابها .. وليس بالضرورة أن تكون متوافقة مع السياسة التحريرية والرؤية الخاصة لوكالة الأنباء المصرية:إندكس***