
الوقت والجرائم الإسرائيلية المسكوت عنها دوليا في كل الجبهات، كفيلة بالكشف عن حقيقة سطحية التحليلات التى كان يطاردنا بها البعض من بعد أحداث ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ والتى تعتمد على أن نتنياهو يفعل كل ذلك ليبق في السلطة ويهرب من تحقيقات الفساد والسجن بسفك دماء العرب في كل مكان، فلسطين ولبنان وسوريا واليمن والعراق، بحجة وكلاء إيران فيها.
المشهد بتفاصيله أثبت ما هو أعمق من ذلك، فنتنياهو مجرد وكيل هو الآخر للمعسكر الغربي، الذي يريد إجبارنا على خريطة جديدة للشرق الأوسط، مستغلا أجواء ما بعد ٧ أكتوبر، والتى تزيد الشكوك فيها مع الوقت ، والتى تتطلب تحقيقا عربيا في هذا النطاق، ندعو أن تشرف عليه المجموعة العربية والإسلامية بالأمم المتحدة، حتى لا تضيع الحقوق والثوابت الفلسطينية والعربية.

أهداف نتنياهو الصغيرة والكبيرة
أهداف نتنياهو الصغيرة والكبيرة تحققت من كل الحروب التى أشعلها بالمنطقة على خلفية حجة أحداث ٧ أكتوبر، منحه موتورين ولن نقول أكثر من ذلك، يحسبهم العاطفيون على المقاومة، الفرصة لتنفيذ مخطط إسرائيلي-غربي مأمور به، في فترة حالكة على المنطقة والأمة العربية، ويجب أن نكون متيقظين لها جيدا.
هناك توافق بين المعسكرين، وأيضا هناك مساحات لمبارة ريست مصالح في المنطقة، والوكيلان الأساسيان ينفذا، والصغار من وراءهما.
ويبدو أن هناك وكلاء يتم تغييرهما في المحتوى والمستوى، تقديرا لدورهم، وفي مقدمتهم إسرائيل، وسط مصير متخبط لإيران.
الداهية تجاوز المؤسس
ونتنياهو الداهية، يدرك كل هذه الكواليس وأكثر بالطبع، لذا، يستغل كل تفاصيلها لصالحه، فيرضي مشغليه بتنفيذ مخططاتهم في المنطقة، ومن ناحية أخرى يجود من أجل مجده الشخصي ومصلحة كيانه، الذي تجاوز فيه إنجازات المؤسس بن جوريون في سنوات الحكم، وفي تشكيل الحكومات والسيطرة على وجوه المشهد.
على أرض الواقع يتضح أن نتنياهو حقق هدفًا رئيسًا مهمًا بالنسبة له من شن حرب الإبادة على غزة، وتحويل نمط تعدد الجبهات من نقمة عليه لنعمة لإسرائيل، وهو ما يؤكد أن كل شئ مرتب بدعم أمريكى وغربي كبير دبلوماسياً واقتصاديا وعسكريا، وما يحدث من تحول من غزة إلى لبنان وبعده إيران واليمن والعراق وقبلهم جميعا سوريا، يكشف ذلك بالتأكيد .

تحييد خصومه
الأحاديث الأولية حول أهداف نتنياهو محسومة لأنه يجب أن يبق لينفذ الموكل به، وبالتالى تمكن من إطالة عمر حكومته، وتحييد موقف خصومه بكل أنواعهم من معارضة كارتونية غير كاريزمية وغير ذات خبرة، وماريونت “الصهاينة الدينيين” من نوعية بن جفير وسموطيرتيش، وحتى الحريديم، بل مظاهرات أسر الرهائن التى اختفت بحجة حرب لبنان الثالثة أو عملية سهام الشمال، حسب تغيير الإسم كل فترة وفق المستهدف.
وتصدر نتنياهو استطلاعات الرأى بشكل ما، وتحول للمنقذ بعد نجاحاته المخابراتية في استهدافات كل مستويات قيادات ميلشيا حزب الله بقيادة نصر الله وصفي الدين وشكر وعقيل وغيرهم الكثير، بل وعملية البيجرز التى حققت زخما دوليا وبالتالى داخليا.

تراجع جانتس والمعارضة الكارتونية
وذلك بعدما كان نتنياهو والليكود في حالة تراجع كبير لصالح جانتس وحزبه معسكر الدولة، ولأنه مطلوب لنتنياهو أن يعود، عكس المروج له، ولقلة خبرة وإنعدام كايرزما جانتس، مع محاولات التواصل الأمريكي معه لاختبار كونه بديلا لنتنياهو، ويستطيع تنفيذ المرتب له، عاد نتنياهو تدريجيا وتراجع جانتس وكل الفريق المواجه لمعسكر نتنياهو، ولا يمكن اعتبارها معارضة، فالمشهد السياسي الإسرائيلي، فقط عبارة عن، معسكر نتنياهو ومعسكر لا نتنياهو.
ولو كنا نتعامل مع الأهداف المعلنة والأهداف الخفية، فنتنياهو دمر غزة تماما استعدادا لما يسمى باليوم التالى بمشتملاته المعروفة والسرية، والتى لاتزال فيها بنود تصاغ مع الوقت والمستجدات، وبالطبع سترتبط بعضها بمن في البيت الأبيض جمهورى أم ديمقراطى ، وهذا من ضمن ما يضعه نتنياهو في اعتباراته وهو يعمل على تنفيذ الموكل له.
وهناك أمور استراتيجية بالطبع، لا فارق فيها بين ديمقراطية وجمهورية ساكن البيت الأبيض.
حماس انتهت .. إلا قليلا
نتنياهو أنهى على حماس، بنسبة تقارب الثمانين بالمئة بشريا وتكتيكيا ولوجستيا وعسكريا وإداريا، وفق رصد الخبراء من عدة جنسيات ومعسكرات، لكنه إلى الآن لم ينهى على الرأس الكبري لحماس، السنوار، والذي يتردد إسرائيليا النجاح في قتله، بينما أمريكيا يؤكدون غير ذلك، وحاليا الأقرب بقاءه على قيد الحياة، بل ويركز في إنقاذ نفسه من مصير هنية ونصر الله.
ومهد الطريق لغزة الجديدة برؤية أمريكية-إسرائيلية بتعيين قائد عسكري لها، في مؤشر لاستمرار إسرائيل فيها على الأقل لعشر سنوات وفق التقديرات المختلفة.

لكن لاتزال العديد من الملفات مفتوحة حتى الآن ، فلم يعد مستوطنو غلاف غزة جميعهم للأماكن التى كانوا فيها، ولم يتم الإتفاق على تفاصيل اليوم التالى علنية، ولم يقرر مصير وشكل السلطة الفلسطينية عموما مع اشتعال ملف الضفة هو الآخر ضمن المخططات الجديدة.
المشهد المفتوح في غزة
وبالتالى لايزال المشهد باق في هذه الحالة، خاصة أن نتنياهو ترك كل ذلك مفتوحا دون حسم ، بما فيه الباقي من رهائنهم، ال101، والذي لم يستطع إنقاذ سوى حيا وحيدا منهم بالصدفة، والمفارقة أنه ليس يهوديا، بل بدوى عربي، بكل إسقاطات ذلك.

وذهب للشمال بعد تمهيد أرض المشهد بالاغتيالات المختلفة التى تكشف مدى التنسيق المخابراتى بين كل أجهزة إسرائيل وأمريكا، لكن يبدو أنه سيعانى هناك، ولن ينتهى الأمر قريبا، مع احتمالات امتداد المشهد حتى بيروت وفق المستجدات على الأرض، التى تتقاطع مع المرتب له بالتأكيد.
وبالتالى، عدم القضاء الرسمي على حماس وفق أهداف نتنياهو المعلنة، واجتياح القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني وسط نتائج مبهمة ومتضاربة فيما يخص القضاء الكامل على حزب الله، تظل مسألة تحقيق نتيناهو لأهدافه المعلنة غير واضحة.

مكتسبات جبهات نتنياهو المتعددة
واحد من مكتسبات جبهات نتنياهو المفتوحة حاليا، هو تحييد التدخل الدولي المؤثر بكل ألوانه في الصراع المحتدم منذ عام، في مواجهة الدعم العسكري الذي لا يتراجع عمليا، من الأمريكان للغرب، فكل ما يتردد عن حظر عسكرى غير مؤثر ولا يطول ،وبالتالى لا يؤثر عمليا على العمليات العسكرية المتواصلة منذ عام.
“أيها الغرب لا تتدخل في عمل إسرائيل” كما تقول صحيفة”يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية على لسان المحلل السياسي الإسرائيلي”بن ديرور يميني” الذي قال أن إسرائيل عانت كثيرًا من “العمى” الدولي، فلماذا يتحدثون الآن ؟! .. وأنه على كل من يبغي السلام الآن أن يشارك في قصف حزب الله فيما تعاقب إسرائيل إيران.

الضغط على المجتمع الدولى
وكانت هذه آلية عمل نتنياهو بالفعل، من الضغط على المجتمع الدولي بسردية تهديد إيران، وسط اتهامات بتكتم الخسائر الحقيقية للجيش الإسرائيلي وعناصره في جنوب لبنان.
جبهة لبنان أدارت الأعين عن غزة التي لايزال يحاصرها الجيش الإسرائيلي بالباقي من قواته فيها، بعد استدعاء ألوية وفرق منها للبنان، وسط حالة من الإنهاك كانت واضحة في محصلتها هناك، والمفارقة أن الجيش الإسرائيلي تركت المناطق التى كان يصرخ عليها نتنياهو ويواجه فيها المصريين والعالم حتى لا يتنازل عن التواجد فيها، وهى محور فيلادلفيا ومحور نتساريم القاسم لغزة.
مجاعات مستمرة
وتعاني غزة من مجاعات حقيقية بسبب نقص إمدادات الغذاء والماء من أول لحظة من الحرب وحتى الآن ، وعادت لها الأنظار خلال الساعات الاخيرة فقط، مع مجازر إسرائيلية جديدة في عدة مناطق منها جباليا شمال القطاع، لكن يظل التواجد الإسرائيلي داخل القطاع محفوفًا بالمخاطر، مع قلته قي بعض المناطق ، سيما في ظل أهداف الغزو المعلنة قبلًا بشأن تدمير الأنفاق، واستهداف قيادات حماس، وإيجاد بديل لها.
في الوقت نفسه، ترصد الصحف الإسرائيلية واقعًا كئيبا للجنود الذين توجهوا للقتال في غزة، فتقول إن المحظوظ الذي نجا “دخل غزة لكنه لم يخرج منها” حيث تحاصره الأفكار السوداء ومشاهد قتل زملائه والرعب الذي شاهده في قتال الأنفاق، وأكثرهم ممن فقد أعضاءه أثناء القتال قد عاد عاجزًا، لا يفي معاشه بالتزاماته الأساسية في إشارة إلى تضرر الاقتصاد الإسرائيلي بطول أمد الحرب في غزة، رغم الدعم الغربي المتواصل.

استمرار الهجمات:
برغم ذلك، وبعد دخول حرب غزة عامها الثاني بلا حل قريب يلوح في الأفق، وبرغم اعترافه رسميًا بسقوط 714 قتيل منذ السابع من أكتوبر، يقول الجيش الإسرائيلي أنه يقود “أعلى الحملات الجوية كثافة في العالم خارج قطاع غزة خلال العامين الماضيين”، مقدمًا إحصاءات غطت أقل من أسبوع من القصف العنيف على لبنان، أكد فيها نجاح قواته في القضاء على المئات من عناصر المقاومة، بينها 21 من قيادات حزب الله خلال أربعة أيام فقط، وهي حصيلة مهمة يثمنها الجيش الإسرائيلي ويقارنها دومًا بعملياته في حرب تموز 2006.
فيما تشير إحصاءات إسرائيل العسكرية إلى أن دوي الصواريخ الذي لم يكن ليسمع في مناطق كحيفا والجليل سوى نادرًا قبل عملية “سهام الشمال”، ارتفعت وتيرته بعدها بشدة حتى وصل دوي صفارات الإنذار بهذه المناطق وما حولها إلى أربعة عشر ضعفا، في إشارة إلى تزايد هجمات حزب الله برغم ذلك.
تهديدات قيادات إسرائيل
تصريحات قيادات إسرائيل التهديدية، التى يرددها نتنياهو وجالانت وهاليفي بأن أذرعتهم لديها القدرة على استهداف أي نقطة في الشرق الأوسط بدقة وبقوة، وأعداؤهم الذين لم يفهموا ذلك بعد، سيفهمونه قريبًا .. جمعت الجبهة الداخلية الإسرائيلية وراءهم بعنوان التخويف، ويتضح من هذا أن الانقسام الداخلي الذي بدأت به الحرب يتراجع تدريجيًا، فيما تزداد حملات التبرع للجنود التي يطلقها الحاخامات بشكل عاجل للقوات التي ستقضي عطلات العام الجديد ويوم الغفران على الجبهة اللبنانية
تعكس الشكاوى المتواصلة التي تتلقاها وسائل الإعلام الإسرائيلية من عوام المستوطنين لخلو المستوطنات المنقولين إليها من ملاجئ الحماية من القصف، أزمات المستوطنين التى لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية السيطرة عليها حتى الآن جنوبا وشمالا، رغم أن ملف الاستيطان من ضمن الملفات المهمة التى يعمل عليها نتنياهو، استعدادا لأى تسويه صورية قادمة.

• دعم أمريكي:
يثمن نتنياهو الموقف الأمريكي الداعم، ولا يمكن تغافل وجود ثمانية رهائن أمريكيين لدى حماس، لقي أحدهم مصرعه، وتعلم تل أبيب أن إدارة بايدن مقيدة بمسار الانتخابات الرئاسية الذي يتحدد معه الدعم الأمريكي اللامشروط لإسرائيل بمحددات مهمة منها أصوات المعارضة سواء في الدوائر الرسمية أو حتى على مستوى الشارع، غير أن هذا لا ينفي ثقة رئيس الوزراء الإسرائيلي في التحقيق الأمريكي لمصالح بلاده حيث أضاءت واشنطن البيت الأبيض بألوان علم إسرائيل تضامنا معها بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر، وهو ما دعمته إدارة بايدن لاحقًا بجملة من القرارات منها الموافقة على حزمة مساعدات خاصة قوامها 14مليار دولار لدعم القبة الحديدية وأنظمة دفاع مقلاع داوود وغيرها، فضلا عن استقبال بعض من أسر الرهائن في البيت الأبيض، والتزام الولايات المتحدة بالفيتو في التصويت على قيام الدولة الفلسطينية.
الأمر الذي ينتظر نتنياهو ما هو أبعد منه من مرشحي الرئاسة سواء “ترامب” الجمهوري، أو “هاريس” الديموقراطية مما يعني دعمًا غير محدود سواء لصالح بقاء حكومته، أو حتى حال تصعيده في مواجهة مباشرة مع إيران واستهداف منشآتها النووية كما تهدد قيادات الحرب حاليًا..وعموما فنتنياهو يميل للتصعيد، او هكذا يروج دائما، وبالتالى هو في حقيقته ليس سوى وكيلا لمن يعطيه التعليمات، لكنه فقط يخرج المشهد بشكل يمنحه مساحة القائد.