الدعم الحوثي لغزة كان الأكثر إزعاجاً لإسرائيل بعد صمود الغزّيّين. صواريخهم البعيدة المدى التي ورثوها من نظام الرئيس علي عبدالله صالح والتي طُوّرت وعُزّزت بصواريخ إيرانية ومسيّرات، قرّبت المسافات وجعلت اليمن البعيد جغرافياً على أبواب مستوطناتهم الجنوبية.
الخطر الأدهى كان تهديدهم السفن الإسرائيلية العابرة باب المندب، الأمر الذي تترتّب عليه تداعيات استراتيجية تتعدّى الخسائر التجارية المباشرة. يشكّل هذا المضيق عقدة تاريخية للدولة العبرية منذ أن أغلقته صنعاء أمام ناقلات النفط الإيرانية المتّجهة لدعمها في حرب أكتوبر 1973.
هذه المرّة حلفاء إيران في اليمن هم من يهدّدون بتعطيل حركة سفنها المتّجهة من إيلات وإليها والمحمّلة بالواردات وبعض حاجاتها من النفط، في مقابل صادراتها إلى إفريقيا والشرق الأقصى.
باب المندب بوّابة البحر الأحمر. ونظراً للأهمية الاستراتيجية للمعبر والمسطّح المائي اللذين تمرّ عبرهما أكثر من 38 في المئة من الملاحة الدولية ونحو خمسة ملايين برميل نفط يومياً، سعت كلّ من إسرائيل وإيران إلى التحكّم بهذه النقطة الحسّاسة من المنطقة والعالم. تل أبيب “اشترت” قواعد جوّية في جزيرتَي حالب وفاطمة عند المقلب الإريتري من مضيق باب المندب، و”استأجرت” جزيرة دهلك حيث أقامت قاعدة بحرية.
لكنّ طهران كانت “أشطر” بدعمها اللامحدود لجماعة الحوثي على المقلب الشرقي من المعبر الذي تتوسّطه جزيرة بريم (ميون) اليمنية. وربّما الموقع الجغرافي لليمن كبوابة جنوبية للعالم العربي وزاوية العقد للبيت الخليجي، ونقطة انطلاق إلى شرق إفريقيا، ومفتاح لباب المندب، يعطي صنعاء مكانة بارزة في العقل الاستراتيجي الإيراني ويجعلها في أولويات السياسة الخارجية لطهران.
تل أبيب تريد باب المندب لتغيّر الهويّة العربية للبحر الأحمر وجعله بحيرة إسرائيلية مغلقة لها. والثانية تريد فيه حضوراً تمسك من خلاله أوراق قوة كثيرة وتساوم به على أدوار تتجاوز حدودها الجغرافية، وعلى اعتراف دولي وعربي بأنّها قوة إقليمية كبرى يحسب لها حساب في المعادلات السياسية للمنطقة.
لا يمكن إنكار الجانب العاطفي والتضامني مع أهل غزة ومقاومتها في رسالة الحوثي، لكن أيضاً لا يمكن إخفاء الوجه الإيراني للرسالة. وإذا كان الحوثي شدّد على أنّ الاستهداف يقتصر فقط على السفن الإسرائيلية أو المتوجّهة إلى إسرائيل، فإنّ إيران قالت من خلال الرسالة الكثير ليس لإسرائيل فقط، بل لدول العالم أجمع، أكانوا خصوماً أو أصدقاء، بدءاً من أميركا والاتحاد الأوروبي وصولاً إلى دول الخليج ومصر، وانتهاء بالصين، التي يمثّل باب المندب بالنسبة إليها قلب مشروع “الحزام والطريق”، وربّما دخولها على خطّ المصالحة السعودية الإيرانية قبل أشهر يحمل في ما يحمل محاولة لتحقيق الاستقرار في هذا المعبر الحيوي لتجارتها ومصدر قوّتها.
طهران من خلف حليفها اليمني الموثوق، كأنّها تقول للعالم: أنا هنا في باب المندب، وأنا أيضاً هناك في مضيق هرمز، وهما أكبر الممرّات المائية في العالم، وتمرّ فيهما ثلثا الملاحة الدولية، وأهمّ عقدتين للتجارة والنفط، وهما في مرماي ساعة أريد. والسيطرة على المضائق هي من أهمّ نقاط الارتكاز في الاستراتيجية الإيرانية.
كان علي عبدالله صالح يقول إنّ “من يمتلك مفاتيح باب المندب وهرمز لا يحتاج إلى قنبلة نووية”. صحيح أنّ وقع إغلاق المعبرين معاً في وجه الملاحة أشدّ هولاً من سلاح الدمار الشامل.
لم يسبق لأيّ إمبراطورية أو قوة عظمى في التاريخ أن سيطرت على هرمز وباب المندب معاً، لا الإمبراطورية البريطانية ولا الفرنسية في ذروتهما، ووحدها البرتغال استطاعت ذلك لفترة محدودة من الزمن للربط بينها وبين مستعمراتها في إفريقيا الشرقية والشرق الأقصى وصولاً إلى ماكاو الصينية التي شكّلت عودتها إلى وطنها الأمّ عام 1999 خاتمة لأطول الإمبراطوريات الاستعمارية عمراً.
لكن أيضاً من لا يمتلك السلاح النووي لا يمكن له اللعب بنار كهذه ولا أن يحتفظ طويلاً بالموقعين الاستراتيجيَّين معاً، ذلك أنّ المسّ بالملاحة الدولية وإغلاق المعبر هما مسّ بالأمن والاستقرار الدوليَّين وقد يستدعيا ردّاً دولياً. تدرك إيران خطورة ملامسة هذا الخطّ الأحمر العالمي، لذا لم ولن تغامر بإغلاق هرمز المتّصلة به مباشرة تداركاً لردّ فعل دولي لا طاقة لها على تحمّل تبعاته الكارثية. تكتفي بدلاً من ذلك بتوجيه الرسائل غير المباشرة من المعبر الآخر لتجنّب التبعات، مع التذكير بأنّها حاضرة في المعبرين.
التلويح بهذه الورقة المزدوجة شيء واستعمالها شيء آخر. وربّما كان إشهارها مقدّمة لفتح بازار مساومة جديد مع الأميركي والأوروبي والآخرين من موقع قوّة، من أجل تشريع النووي الإيراني أو منح النفوذ الإقليمي الإيراني الاعتراف الدولي في أيّ رسم جديد لمستقبل الشرق الأوسط.