من المؤكد – أو هكذا أتمنى – أن هناك جريدة أو قناة أو موقع إلكترونى أو مركز أبحاث فى مصر ينظر للعالم حاليا من أعلى كطير يحلق و يرصد كل الصراعات و الأزمات الحادة و يقيس بالخبرة و بالمعلومات وكل المعطيات درجة حرارة كل صراع و يرصد و يحلل السياسات و التصريحات والأفعال التى تساهم فى تسخين أحدهم وتبريد الأخر…
و هى متابعة و فعل مهنى بالنسبة للباحث والقارىء و المهتم مثيرة و تزيد التفاعل و الوعى و الإدراك… ولا يجب من الناحية المهنية و الأكاديمية أن ترصد و تحلل صراع أو أزمة بمعزل عن بقية الصراعات والأزمات والبيئة الدولية التى تتفاعل فيها…
اشتعال و تسخين الأحداث فى ما بين فصائل المقاومة الفلسطينية و المحتل الإسرائيلى سحب بساط الاهتمام و التركيز من الحرب الروسية الغربية فى أوكرانيا فى وقت تعانى فيه كييف وحاكمها زيلينسكى من شح فى الإمدادات و الدعم و التمويل والتسليح نتيجة حالة الإنهاك و الاحباط التى يشعر به الحلفاء فى واشنطن و العواصم الغربية من الفشل المتكرر للقوات الاوكرانية و الخبراء و المقاتلين الغربيين على الأرض فى القيام بهجوم مضاد يحرج بوتين و يلحق الهزيمة بالقوات الروسية تقضى على كل الأهداف من الغزو؛
وذلك فى الوقت الذى يتعمد بوتين الحفاظ على إيقاع بطىء للغاية يراهن فيه على تصدير الأزمات لكل الحكومات الغربية و إستنزاف طويل المدى لترساناتها من الذخيرة و الأسلحة و نفاذ الأموال المرصودة للدعم المالى بسبب الفاتورة الكبيرة لإبقاء أوكرانيا دولة على قيد الحياة…
التبريد للأحداث طال ما قامت به تركيا و حاكمها أردوغان من هجوم جوى غير مبرر على الشمال السورى تسبب فى جرائم حرب سرعان ما تخطاها العالم الذى يرى الدماء العربية رخيصة و الأراضى العربية منتهكة و أن سكان تلك البقعة من العالم ليسوا بشرا تنطبق عليهم كل قواعد القانون الدولى و القانون الدولى الإنسانى و قواعد الإشتباك و السيادة على الأرض و الحدود أى كانت التحفظات على أنظمة الحكم و ممارساتها داخل تلك الحدود…
التبريد المؤقت يطال المواجهات فى السودان بين الجيش الوطنى و ميليشات الدعم السريع و كم الخراب والدمار و النزوح والمجاعة التى تهدد حياة 25 مليون مواطن؛ و هو الأمر الذى طال الموقف من الصراع وحالة الإنقسام ما بين الشرق و الغرب فى ليبيا متأثرة بما حدث من مأساة إنسانية غير مسبوقة فى درنة ذهب ضحيتها عشرات الألاف ما بين قتيل و مفقود…
بينما ملف سد النهضة و أزمة المياه و الصراع المكتوم ما بين أثيوبيا و دولتى المصب على النيل الأزرق ملف لم يتم تسخينه حتى يبرد مجددا و سار فى مسارات لا يحكمها صراع مسلح و لا تحكمها مفاوضات و لا قواعد بعد حالة الإنتهاك لما وقع من أتفاقيات و عدم الإعتراف و الإنكار لما وقع قبلها؛ و خضعت النصوص للتفسيرات المتضاربة و المراوغات كسبا للوقت و سعيا للوصول إلى مرحلة فرض الأمر الواقع الذى يتجاوز فكرة التنمية و استغلال الموارد و توليد الكهرباء و تخزين المياه و ربما بيعها إلى “قنبلة مائية” يستغلها أى عدو لدولتى المصب فى أى صراع مستقبلى و هو ما يدركه أى خبير عسكرى…
الحرب على غزة أشعلت محاور الصراع فى إقليم الشرق الأوسط و خاصة المحور الإيرانى و باتت كل الأذرع الإيرانية فى لبنان و سوريا و اليمن جاهزة و مستنفرة فى انتظار الأمر من طهران لو أن الأحداث تطورت لاشتباك أو استهداف مباشر للأراضى و المنشأت الإيرانية على خلفية الانتقام الشامل من حماس و الجهاد الإسلامى اللذان يتلقيان الدعم المالى و اللوجيستى والتسليحى و التدريبى من إيران من وجهتى النظر الإسرائيلية و الأمريكية، و أن حالة الجاهزية التى ظهرت بوضوح فى عملية طوفان الأقصى لا تخلو من تخطيط و دعم إيرانى؛ وزاد من حالة السخونة التصريحات والأفعال الأمريكية التى أرسلت حاملة الطائرات التى تعمل بالوقود النووى “جيرالد فورد” يصاحبها عدد كبير من القطع البحرية و أقامت جسرا جويا لإمداد تل أبيب بالذخيرة و السلاح المطلوب لضمان إستمرار عمل القبة الحديدية؛
و صرح المسئولون فى الإدارة الأمريكية بداية من الرئيس بايدن مرورا بمستشار الأمن القومى وصولا لوزيرى الخارجية والدفاع وكل قادة وأعضاء الكونجرس بمجلسيه من أن الدعم و التواجد العسكرى الأمريكى هو لردع أية قوة إقليمية تتدخل فى العمليات العسكرية، و فهم الجميع أن المقصود هو إيران وأذرعها فى المنطقة خاصة حزب الله فى لبنان؛ و ذلك فضلا عن مزاعم أمريكية بوجود مواطنين أمريكيين أسرى من بين من تتحفظ عليهم الفصائل الفلسطينية داخل قطاع غزة…
سخونة الصراع فى قلب العالم “الشرق الأوسط” يسمح بمساحات حركة لقوى دولية لتنفيذ بعض السياسات والتحركات التى تكون مفيدة لمصالحها وصراعاتها مع واشنطن خاصة الصين و روسيا و كوريا الشمالية؛ بالأمس تم تدمير خطوط الإتصالات تحت المياه بين الدول المطلة عليه و هى الدنمارك و إستونيا و لاتفيا و فنلندا وألمانيا و لتوانيا و بولندا و روسيا و السويد وهو ما سبب إرباكا فى تلك الدول وأسواقها وستتسبب فى ضغوط متزايدة على عواصم تلك الدول وقراراتها، وقد تم إتهام روسيا بأنها تقف خلف عملية ضرب تلك الخطوط فى أطار التأثير على المعسكر الداعم لأوكرانيا و تركها معزولة تواجه حرب الاستنزاف الروسية…
الصين و روسيا وكوريا الشمالية سيكونوا سعداء بتقليص النشاط و الاهتمام الأمريكى و تخفيض التوتر فى بحر الصين الجنوبى ( الذى يحتوى على مخزونات كبيرة من النفط والغاز وممرات ملاحية إستراتيجية) وبحر اليابان ومنطقة المحيط الهادىء فى شرق آسيا وذلك على النقيض من رغبة واشنطن التى كانت قد قللت من أهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق من أجل التركيز على الصراع المستقبلى مع بكين وموسكو وبيونج يانج فى منطقة المحيط الهادىء، ورغم أن العودة الأمريكية للشرق الأوسط أو لأية منطقة صراع ونفوذ لا تسعد تلك العواصم إلا أنها مرحليا قد تكون مفيدة فى استنزاف القدرات الأمريكية خاصة فى ظل صراع الأولويات على الإنفاق العسكرى والدعم الخارجى للحلفاء بين الجمهوريين والديموقراطيين فى الكونجرس، ويزيد الضغوط على إدارة بايدن التى تستعد لخوض إنتخابات أمريكية شرسة مع الجمهوريين الذين يسعون للعودة للبيت الأبيض مجددا؛
وهو ما يجعل أى قرار أو دعم أو سياسة تجاه الملفات الخارجية خاضعا للإبتزاز والنقد والهجوم و يجعل من التحركات الأمريكية فى مجملها مرتبكة و بطيئة إلا فى ما يخص أمن إسرائيل بإجماع الحزبين مراعاة لاصوات و تأثير اللوبى اليهودى على الإنتخابات و الإعلام و الاقتصاد الأمريكى…
الموضوع والمتابعة لتلك الملفات شيقة و مثيرة و لكن يجب أن يتم النظر لتلك الأمور على مدار الساعة كى نستطيع أن نحدد المصالح و التقاطعات و الصدامات و التحالفات و المدى الزمنى لكل صراع على خريطة كبيرة للعالم يوما بعد يوم تزداد عليها عدد النقاط الساخنة التى سرعان ما تبرد لتعود ساخنة فى أوقات أخرى و هكذا داوليك… و لنا متابعات طالما أمتدت الصراعات…