جاءنا الآن
الرئيسية » مقالات و أراء » د.محمد بدرى عيد يسطر: سر الفشل المخابراتى الإسرائيلي في مواجهة الطوفان الفلسطينى!

د.محمد بدرى عيد يسطر: سر الفشل المخابراتى الإسرائيلي في مواجهة الطوفان الفلسطينى!

د.محمد بدرى عيد

 

 

 

يشكل فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية معلماً رئيسياً في المشهد الاستراتيجي العام الذي صاحب الهجوم الفلسطيني المباغت والمزدوج على مستوطنات غلاف غزة، حيث وصفت وسائل الإعلام في إسرائيل الإخفاق في توقع هذا الهجوم – فضلاً عن عدم إحباطه وانهائه في أسرع وقت- بـ “القصور المُجلجل والمُهين” لاستخبارات تل أبيب الداخلية (أمان والشاباك)، والخارجية (الموساد).

وإذا كانت هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الإخفاق، فإنها بلاشك أول سابقة على صعيد عدم القدرة على التنبؤ الاستخباراتي فيما يخص التحركات في الأراضي المحتلة وخصوصاً قطاع غزة، المفترض أنه يحظى بتركير فائق من هذه الوجهة، لاعتبارات أمنية وعسكرية عدة.

فقد تجلى الفشل الاستخباراتي الأكبر في تاريخ إسرائيل في مفاجأة حرب أكتوبر عام 1973م، وهو الفشل الذي كان محور التحقيقات التي أجرتها “لجنة أجرانات” بعد الحرب. كما أخفقت الاستخبارات الإسرائيلية في توقع اندلاع الموجة الأولى من الانتفاضات العربية عامي 2010-2011م، ولم يكن أخر مظاهر الرسوب الاستخباراتي لاسرائيل هو تفاجئها بنشوب الاقتتال الداخلي بين جناحي المكون العسكري في السودان في منتصف إبريل 2023م.

اهتزاز مبدأ الإنذار المبكر

تركز التقييمات الاستراتيجية الإسرائيلية على أداء أجهزة الاستخبارت في كل ما يتعلق بحركة إسرائيل، وخصوصاً فيما يتعلق بالتعامل مع الخارج؛ ويعزى ذلك إلى أن الإنذار المعلوماتي المبكر الذي توفره هذه الأجهزة يمثل أحد مرتكزات العقيدة العسكرية الإسرائيلية منذ عقود.

ويعني الإنذار المبكر توجيه أجهزة الاستخبارات بما يف ذلك استخبارات الجيش الإسرائيلي إنذارات فورية سريعة للقيادة السياسية والعسكرية تحذر من مغبَّة أي هجوم أو خطر محتمل.

كما أن ضمان التفوق الإستخباراتي النوعي لإسرائيل، يُعد ركيزة جوهرية لاستراتيجية الأمنية منذ إعلان قيامها عام 1948م.

في ضوء ذلك، فإن الإخفاق الاستخباراتي من المنظور الإٍسرائيلي هو أمر كارثي بكل ما تعنيه الكلمة؛ لأنه يضع بقاء الدولة ووجودها- وليس فقط أمنها- على المحك.

ولذلك، فإن أحد أهم دلالات هجوم “طوفان الأقصى” هو أنه هز الانذار المبكر، أي هدد في الصميم مرتكزاً رئيسياً للعقيدة العسكرية الإسرائيلية.

الفشل الاستخباراتي في ضوء “قدسية” مفهوم الأمن الإسرائيلي

يتصدر الأمن سلم الأولويات الإستراتيجية في العقل والوجدان الجمعي الإسرائيلي على نحو ليس له مثيل في دول العالم قاطبة، حيث يشكل مسألة وجود وبقاء للدولة والمجتمع، وذلك إلى حد ذهب معه الرئيس الأسبق شمعون بيريز للقول أن الأمن يجب أن يتقدم اهتمامات الإسرائيليين جميعاً حتى قبل تنفس الهواء.

وذهب البعض للقول بأن “الدستور الوحيد الموجود في إسرائيل منذ ديفيد بن جوريون حتى بنيامين نتنياهو هو دستور الأمن”، وبالتالي أصبح الحفاظ على أمن الدولة وسلامتها الوجودية أبرز ثوابت الإجماع القومي في إسرائيل منذ تأسيسها وحتى الآن. كما بات الأمن الموجه الرئيس لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، سلماً وحرباً، والمرتكز الحاكم لإدراك نخبتها بغض النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية ومواقفها السياسية، ومن المرجح أنه سيظل كذلك أيضاَ خلال المستقبل المنظور والبعيد.

 ونتيجة لهذا الهاجس الأمني، وطغيان الطابع العسكري على كافة مناحي الحياة العامة، تحول المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع الثكنة العسكرية.

واستناداً لهذا الإدراك، صاغت القيادات المؤسسة لاسرائيل فرضيات أساسية شكلت في مجملها ما اصطلح على تسميتها بـ”ثقافة الأمن الإسرائيلية”، والتي أصبحت بمثابة المبادئ الحاكمة لإدراك وسلوك القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية، والتي تربط بقاء الدولة باستمرار دعم المؤسسة العسكرية.

في ضوء ما تقدم، يبدو من الوهلة الأولى أن الفشل الاستخباراتي في توقع هجوم بحجم ونوع “طوفان الأقصى”، يعتبر أمراً مثيراً للدهشة والحيرة والاستغراب؛ وذلك بالنظر إلى الطبيعة العسكرية لهذا الهجوم وضخامته وتعدد المحاور التي شملها براً وبحرأً وجواً، ما يعني أن هناك جزء مهما من ذلك الهجوم تم التدريب عليه سابقاً ولعدة مرات، في ساحات مفتوحة لا يمكن التكتم عليها مطلقاً بعيدأً عن أعين ومراقبة الاستخبارات الإسرائيلية، وتحديداً ما يخص التدريب على “الإسقاط بالمظلات”، والذي تم بسرعة واحترافية كبيرة خلف خط الدفاع العملياتي في مستوطنات غلاف غزة.

ولذلك، يثور “التساؤل اللغز” بشأن تفسير هذا الإخفاق في ضوء أن الأمن محدد حاكم لإدراك النخبة لقضايا السياسة الداخلية والخارجية، بما ينسجم مع تصدر الهاجس الأمني سلم أولويات الإجماع القومي داخل إسرائيل.

حيث من المفترض- نظرياً- أن النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية تميل إلى التعامل مع التهديدات الماثلة أوالمحتملة والتخطيط لمواجهتها وفقاً لتوقع “السيناريو الاسوأ”، وذلك كانعكاس للتشاؤم والحذر المبالغ فيه باعتبارهما من أبرز السمات النفسية للشخصية الإسرائيلية.

الإدراك السياسي.. مفتاح “سر اللغز”

إن إنعام النظر في الخبرة التاريخية والمعاصرة لتعامل أجهزة الاستخبارات في إسرائيل مع منظومة المعلومات الواردة إليها من مصادرها المختلفة، بشأن التهديدات المحتملة أو الوشيكة، تُظهر تغليب قيادات هذه الأجهزة (الشاباك، أمان، الموساد)- في أحيان كثيرة- لقناعاتها الذاتية المبنية على الخبرة والإدراك المسبق والصور الذهنية المستقرة، أكثر من تركيزها على ماهية هذه المعلومات وما تتضمنه من محتوى اقعي، لاسيما إذا كان هذا المحتوى يتعارض مع القناعات والمدركات الموجودة داخل هذه الأجهزة.

ومن ثم، يبدو يرى كاتب هذه السطور أن الإدراك السياسي والعسكري لقيادة الاستخبارات الإسرائيلية لعب دوراً رئيساً فيما يخص تقييم وفلترة المعلومات التي وردتها بشأن التجهيز لهجوم حركة “حماس” المزدوج “طوفان الأقصى” وتوقيته ونوعيته.

ولتوضيح هذا الأمر، ربما يكون مفيداً ان نعرج في عجالة على الدور الذي يلعبه الإدراك السياسي في صنع واتخاذ القرار.

فمن منظور علم السياسة، تتجلي أهمية الإدراك في أن السياسات عادة ما تُبنى انطلاقًا من إدراك صانع القرار لمواقف معينة، حيث تؤثر مدركاته النفسية وسمات شخصيته وتصوراته المسبقة في إضفاء تآويلات محتملة للواقع، ومن ثم تساهم في تشكيل استجابته وردود أفعاله إزاء المواقف والأحداث المختلفة.

ويرى أنصار المدرسة النفسية الإدراكية في العلوم السياسية، من أمثال: هولستي وروبرت نورث وريتشارد برودي وغيرهم، أن الإدراك السياسي للنخبة في دولة ما، إنما يعبر عن رؤيتها لموقف سياسي معين، داخلي أوخارجي، وطبيعة تأويلها لهذا الموقف، وتفسيرها له، وتصورها للكيفية المثلى للتعامل معه، من منظور المصلحة العليا للدولة.

كما أن للسمات الشخصية دوراً محورياً في تحديد الإختيار الإدراكي وخاصة ما يُعرف بـ”الإدراك الانتقائي” الذي يعد أداة رئيسة يلجا إليها الفردُ لتقليص التناقض بين المعلومات الجديدة وتصوراته السابقة، وهو ما يترتب عليه سوء في الإدراك، أو “خداع الإدراك”؛ الذي يعني إدراكات مضطربة أو قائمة على سوء تأويل الواقع وتشوه عملية قراءته، أوالمبالغة في تصور خطر معين أو ما تطلق عليه دراسات علم النفس التجريبي “الخطر المُدرك”.

يعني ذلك أن الإدراك يتحدد بالشخص المُدرك أكثر ما يتحدد بالموقف أوالظاهرة الموضوعية؛ ولذلك فإن العملية الإدراكية غالباً ما يشوبها التحيز. ويزداد التأثير النسبي للعوامل الذاتية في تأويل الموضوع المُدرك وتكيف إدراكه، كلما اتسم هذا الموضوع بالجدة أوالمفاجأة أو الغموض، أو إذا كانت البيئة أوالسياق العام لهذا الموضوع ذو طبيعة معقدة، أوحدث في ظروف غير مألوفة. وفي مثل هذه الحالات، يتم استدعاء الخبرة السابقة للإنسان عن الموضوع المُدرك، والاستناد إلى معتقداته وقيمه واتجاهاته إزاء هذا الموضوع؛ لفهمه وإدراكه.

وإذا ما حاولنا تطبيق ذلك على حالتنا الراهنة، المتمثلة في الكيفية المفترض أو المتصور أن تعاملت بها الاستخبارات الاسرائيلية مع توقع هجوم “طوفان الأقصى”، وبالتالي أفضت إلى هذا الفشل الاستخباراتي التاريخي، سنجد أننا إزاء ثلاثة سيناريوهات رئيسية، هي:

1)- سيناريو (عدم انعدام معلومات استباقية عن الهجوم):

 يمكن القول بقدر كبير من الاطمئنان ان هذا الأمر مستبعد لاعتبارات عديدة، أهمها: أن هذا الهجوم يتعلق بالاختراق المباشر للعمق الإسرائيلي الضيق، وتوجد شبه استحالة في عدم وجوج حجم هائل من المعلومات حول كل “شاردة واردة” تتصل بهذا المحيط الوجودي وليس الحيوي فقط للأمن الإسرائيلي، ناهيك عن الامكانات التي تمتلكها استخبارات تل أبيب.

2)- سيناريو (تجاهل المعلومات الاستباقية عن الهجوم):

يقوم هذا التوقع على أن افتراض تلقي أجهزة الاستخبارات في تل أبيب لمعلومات مؤكدة من مصادر متنوعة ومتواترة عن الهجوم الفلسطيني، ولكن تم تجاهل هذه المعلومات؛ في ضوء قناعة مؤداها استحالة وقوع مثل هذا الأمر.

3)- سيناريو (التأويل المتحيز للمعلومات الاستباقية عن الهجوم):

يفترض هذا التوقع قبول الأذرع الاستخبارتية الإسرائيلية أو بعضها لجزء من المعلومات الاستباقية المؤكدة التي وردتها، واستبعاد أخرى، كأن تكون هذه قيادة الاستخبارات اقتنعت بأن هناك هجومأً وشيكاً من قطاع غزة، لكنها رفضت تصور أن يأتي هذا الهجوم المتوقع بالكيفية التي تم عليها.

 وفي كلا السيناريوهين الثاني والثالث، تكون الاذرع الاستخباراتية في إسرائيل قد تلقت المعلومات عن هجوم “طوفان الأفصى” قبل وقوعه بإدراك انتقائي متحيز، مما أوقعها في معضلة الجاهزية غير المكتملة للتعامل مع هذا الخطر الوشيك على النحو الأمني الأمثل.

ويفسر هذا الاستنتاج، عدم رفع الاستخبارات الاسرائيلية إنذراً مبكراً للقيادتين السياسية والعسكرية بأن هناك هجوم وشيك محتمل من قطاع غزة أو على أفضل تقدير تم توجيه هذا الإنذار مع التوصية بالتهوين من شأنه وتعظيم قدرة إسرائيل على التصدي الفعال له حال نشوبه، وذلك على غرار ما حدث تماماُ قبل 50 عاماً عشية حرب 6 اكتوبر 1973م المجيدة.

وفي تقديرنا المتواضع، فقد أستندت قيادات الأجهزة الاستخباراتية في إدراكها السياسي المتحيز تجاه استبعاد وقوع هجوم “طوفان الأقصى” إلى المعطيات الاستراتيجية التالية:

– التزام “حماس” الحياد إلى حد كبير خلال جولة المواجهات الأخيرة بين إسرائيل وحركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية في مايو 2023م.

فقد أعطى هذا الموقف انطباعاً لدى دوائر الأمن في تل ابيب بوجود حالة من “الاسترخاء العسكري” لدى “حماس” وانها غير راغبة في الدخول في مواجهات عسكرية في الوقت الراهن، لأنها تركز على التعامل مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة في القطاع.

– فقدان “حماس” الدعم الإقليمي مما يقلص مخاطرها الإستراتيجية ضد إسرائيل، فقد خسرت الحركة التحالف مع المحور الراديكالي بقيادة إيران بسبب الأحداث في سورية، وهو ما مثل نقطة تحول فارقة لصالح تعزيز أمن إسرائيل؛ حيث ساهم في تجفيف منابع “حماس”، وخفض مخزونها من الأسلحة والصواريخ، مما قلص هامش المناورة أمامها في اية مواجهات مستقبلية مع إسرائيل.

– التطورات التي تشهدا منطقة الشرق الاوسط، لجهة “تصفير المشاكل الإقليمية”، وتفكيك التحالفات القديمة، وإعادة بناء وتكريس تحالفات بديلة، وذلك على ضوء إعادة استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض و

طهران، والتقارب بين القاهرة وأنقرة من جهة، وبين طهران والقاهرة من جهة أخرى، وظهور مؤشرات على قرب “التطبيع” بين السعودية وإسرائيل برعاية أميركية واضحة وكاملة؛ بما تعنيه هذه التغيرات المتسارعة من إيجاد مناخ إقليمي عام غير مواتٍ لأي مواجهة عسكرية ولو على مستوى منخفض من التصعيد في شكل جولات أو معارك صغيرة لا تصل إلى الحرب.

صفوة القول:

 يُرجح هذا التحليل الموجز أن البيئة النفسية والسمات الشخصية لقادة صنع واتخاذ القرار الأمني في إسرائيل، قد لعبت الدور المركزي الأعظم في إدراك هذه القيادا للمعطيات المعلوماتية التي بين يديها؛ ومن ثم شكل هذا الإدراك الانتقائي المحدد الأكبر في توجيه تحرك أجهزة الاستخبارات فيما يخص رفع إنذار مبكر للقيادة السياسية ممثلة في رئيس الوزراء، بهجوم وشيك أو محتمل من غزة على إسرائيل.

 

 

 

 

عن الكاتب

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *