مرت 100 عام، يوم 4 نوفمبر الجاري، منذ أن كتب الصهيوني اليميني زئيف جابوتنسكيZe’ev Jabotinsky ، مقاله “الحائط الحديدي: نحن والعرب”، في 4 نوفمبر 1923، ليُحدد كيفية تعامل المُهاجرين اليهود بفلسطين مع مواطني الدولة التي إغتصبوا أرضها بصفة خاصة والدول العربية المُحيطة بصفة عامة، لتحقيق أهداف الصهيونية في إستيطان فلسطين والعيش فيها بسلام وإطمئنان مع جيرانهم الجُدد، داخل وخارج الدولة الناشئة.
فإسرائيل تقوم بالفعل على فكرة هذا المقال الذي أكد فيه جابوتنسكي على أن “الإستعمار الصهيوني .. يجب أن يستمر بمعزل عن رغبة السكان الأصليين. وهذا يعني أن هذا الإستعمار لا يُمكن أن يتطور إلا تحت حماية قوة مُستقلة عن السُكان الأصليين تتمثل في حائط حديدي، لا يستطيع أحد إختراقه”. ويتحدث عن أن السلام المُستقبلي مع سُكان دول المنطقة المحيطة بالدولة اليهودية الوليدة، جائز فقط، عندما يتواجد اليقين العربي بـ “إنعدام الأمل”، من القدرة على كسر هذا الحائط الحديدي لدي الصهاينة.
ولقد شغلت “فكرة الأمن” مُستعمري فلسطين من يهود، من البداية، ولذا إهتموا بتكوين العصابات والمنظمات الأمنية المختلفة وإعداد الجنود وتسليحهم بأفضل ما وصلت إليه التكنولوجيا في كل عصر مروا به في إستيطان الأرض التي إغتصبوها من الفلسطينيين، وأطلقوا عليها مُسمى إسرائيل. وأصبحت لديهم أجهزة أمنية عالية الجودة، وفقا للسُمعة الدولية، سواء على مستوى الموساد المعني بالأمن الخارجي أو الشاباك المعني بالأمن الداخلي وبالذات بين الفلسطينيين.
كما سيطروا على الكثير من تجارة المال والإعلام الدولي، بالإضافة إلى مؤسسات التعليم ذات السمعة المُحترمة، بحيث أصبحوا يسيطرون على تصدير المعلومات بالطريقة التي يريدونها لأغلب دول العالم، فأصبحت الصورة المسموعة وما تُصدرها من معلومات مُكررة، تُشكل ما يؤمن به المُشاهد على أنه الحقيقة المُطلقة.
ووفقا للأحداث المُعلنة منذ يوم 7 أكتوبر الماضي، فإن حماس إخترقت كل تلك المنظومة الأمنية، بطريقة تبدو بدائية جداً، وتُشكك في كل ما روجته إسرائيل عبر السنوات من كونها القوة التي لا تُضاهى في المنطقة.
ذلك، رُغم أنني أشُك كثيراً في تلك الرواية، لأن الشعب المصري تخلص من حكم الإخوان في مصر عام 2013، لأن ذاك الحُكم، كان ينوي منح إسرائيل أرضاً في سيناء لتهجير سُكان غزة، وهو ما تريده إسرائيل الآن من تلك الحرب كهدف أسمى لتفكيك وتصفية القضية الفلسطينية. ونحن نعرف أن الإخوان هم من أسسوا لبداية حماس، والملالي هم من يمولوها ويُسلحوها حالياً، وهم الذين لم يقوموا بأي عملية مُهددة لإسرائيل، ولكن إستهدفوا مُختلف العرب كثيراً، على مدى الـ 44 سنة، التي حكموا فيها إيران.
فما الذي يُضير إسرائيل اليوم، من قتل بضعة مئات من مواطنيها، في سبيل حل مُشكلتها الأزلية، في تصفية القضية الفلسطينية؟ ألا تقتل الدولة العبرية الآن، جنودها حال خطفهم مع خاطفيهم، وفقا لـ “بروتوكول حنابعل” الخاص بها؟ إذاً، ما الضرر في أن تفقد بضعة مئات من اليهود، في سبيل أهم هدف عملت من أجله، منذ التمهيد لإغتصابها لكل فلسطين، حتى قبل العام 1923؟!
وفي هذا الإطار، أتفهم إنبهار الكثيرين حول العالم بإسرائيل، خاصةً أنهم في أغلبهم من غير المعنيين بالعلاقات الدولية وتاريخ الشرق الأوسط وهيمنة السياسة الأمريكية عليه. ولكن هكذا يكلمنا الله أيضاً في القرآن، عن إنبهار الناس بشخص آخر من قوم موسى، شبيه بإسرائيل اليوم، هو “قارون”، قبل أن يفقد كل شيئ، ويندهش الناس وقتها من أنفسهم، وكيف إنبهروا بهذا الشخص المخسوف به وبداره الأرض؟!
فيقول الله في ذلك، في صورة القصص:
“إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعُصبة أُولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يُحب الفرحين (76) وإبتغِ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدُنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يُحب المفسدين (77) قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثرُ جمعاً ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون (78) فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدُنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيمٍ (79) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقاها إلا الصابرون (80) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يُفلح الكافرون (82)”.
وستلقى إسرائيل نفس المصير كقارون، إذا ما إستمرت في تنفيذ “مخطط تهجير الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم”، لأن فكر جابوتنسكي ولى عليه الزمن، وما قامت به إسرائيل عبر الشهرين الماضيين من وحشية، تخطت كل الخطوط الحمراء، التي تفوق ما قام به قارون في الماضي.
إن بوادر التغيير الدولي في الحكم على إسرائيل، ظهرت في خُسارة إسرائيل للإعلام الدولي، أثناء حربها على غزة. ولقد أصبحت الشعوب في أغلبها تضغط على حُكامها للقطيعة مع النظام الإسرائيلي.
إن المنظر العام لما حدث بدءاً من 7 أكتوبر الماضي وحتى الآن، يُنبئ بأن ما هو قادم سيكون مختلف كلياً عن كل ما فات، وأن إسرائيل مهما تقدمت في حربها الحالية وإستكملت إستخدامها القوة المفرطة ضد الفلسطينيين وحاولت تهجيرهم إلى مصر أو الأردن، ستُقهر وتنهزم هزيمة، ستُدرس في المعاهد الحربية العليا في العالم، لمدة قرن من الزمان على الأقل، ليعرف العالم نتيجة “الغطرسة” و”الغرور” و”التطرف”.
وسيتحطم الحائط الحديدي، وكل نظريات الأمن الإسرائيلية. ويبدأ عصر جديد، يُعاد فيه تشكيل توازنات القوة في مُجمل الشرق الأوسط،
ألا لعنة الله على النظام الإسرائيلي وحماس معاً،
ورحم الله شهداء غزة ورفع عنهم تلك المُعاناة البائسة،
والله أكبر والعزة لمصر