جاءنا الآن
الرئيسية » مقالات و أراء » د.سعيد الصباغ يسطر: إعادة هندسة الوعى الجمعى المصري لمواجهة تحديات مصيرية

د.سعيد الصباغ يسطر: إعادة هندسة الوعى الجمعى المصري لمواجهة تحديات مصيرية

 

د.سعيد الصباغ

الوعي الجمعي المصري تعرض، على مدى العقود الماضية، لتغييب منظم أفضى إلى إرباك المنظومة القيمية بالمجتمع والنيل من مكانة مصر الدولية وهيبتها الإقليمية على نحو قلص قدرتها على التأثير الناعم في محيطها العربي والإسلامي، كما أفرغ وعي الفرد والجماعة من مضامينه الذاتية وهز ثقته في قيمه الروحية التي تراكمت بفضل جهود المفكرين والمثقفين والعلماء. حتى بات العامة قلقون على صحة معتقدهم مشغولون بـ «شرعية» ما يرتدون وسلامة ما يلفظون، بل وتجاه مناسباتهم الوطنية والاجتماعية، خاصة بعد النيل من مصداقية فتاوى المؤسسة الدينية وأحكامها الشرعية، والطعن في علمائها بشكل غير مباشر، بل والقدح في قرائها العظام الذين شرفوا بجمع القرآن بأصواتهم ترتيلا وتجويدا، بعد جمعه أول مرة مكتوبا في عهد عثمان بن عفان 

الهزات السياسية والأزمات الاقتصادية 

وقد اتسعت رقعة هذه الفراغ، بفعل الهزات السياسية والأزمات الاقتصادية التي تعرض لها المجتمع المصري ودفعته لدائرة الاعتلال، خاصة بعد تفتيت البنية الزراعية وهجرة أبناء الريف للعيش على أطراف المدن وهوامشها، وتلاشي الملامح المميزة للريف عن الحضر، واختلال التوازن الطبقي بعد تراجع قيمة العمل والإنتاج لصالح الاستيراد والتجارة غير المشروعة تحقيقا للكسب السريع، فازدادت الفروق الطبقية وتزايدت رقعة الفقر والعوذ، وانهارت الطبقة الوسطى التي تعد الحضانة الأساسية لقيم المجتمع وتقاليده السامية المتوارثة لصالح تدهور المنظومة القيمية واتساع رقعة الطبقة الانتهازية وتفشي المحسوبية والفردية بالمجتمع. الأمر الذي دفع أبناء الطبقات المضارة للبحث عن ملاذ يؤمنون به مستقبلهم وسط هذا الانقلاب الاجتماعي، حتى تسنح لهم فرصة الحصول على عقد عمل بالخارج.

وفي هذا السياق، انفردت «الصحوة الإسلامية» بالمجتمع المصري، لتعيد برمجة وعيه الجمعي على نحو أقنع أفراده بسرديات دينية تدعوهم للفرار إلى الله بعيدا عن تناقضات واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومن ثم بدأت تبرز جماعات تسمت بمسميات معبرة عن نزوح وعيها عن هذا الواقع بل وتربصها بالمجتمع الذي تعيش فيه، مثل التكفير والهجرة والناجون من النار والجماعة الإسلامية، والتبليغ والدعوة، وطلائع الفتح، والتي تسابقت مع الجماعات السلفية الأخرى والإخوان والصوفية في بناء قواعد جماهيرية مؤمنة بأفكارها ومناصرة لها.

الأردية الخليجية والحلل الأنيقة

إذ انبرى نجوم الدعوة السلفية بأرديتهم الخليجية، والدعاة الجدد بحللهم الأنيقة، لإعطاء العامة جرعة وعي دفعتهم للتقوقع في أوهام الماضي يستدعون منه صليل السوف وصهيل الخيول لإدارة الصراع مع الواقع غير الراضين عنه. بينما ظل الأزاهرة ضمن الجهاز البيروقراطي للدولة غير قادرين على تجديد خطابهم، بل وتحلل بعضهم من زيه الوقور تمثلا بأزياء إمام الدعاة لعلهم يتخلصوا من وصمة «شيوخ السلطان» التي طالما دأبت أبواق الصحوة الإسلامية على مطاردتهم بها.

غير أن المحصلة النهائية لهذه الصحوة هي تفاقم النفاق الاجتماعي وتحول العامة إلى فقه الظاهر والتدين الزائف الذي يتعالى فيه الفرد بمظهره «الشرعي» دون التخلق بالأمانة والخلق الحسن، ويتباهى بتشدقه بسردية لغوية ليعبر بها عن «التزامه» الذي يحذر فيه من استعمال ألفاظ وعبارات هُيء له أنها ألفاظ «شركية» ويتجنب معه سلوكيات صُور له أنها «بدعية» بدعوى أنها لم تثبت عن النبي.

منظور علماء الصحوة

والأخطر أن فهم العامة لتاريخهم وحضارتهم بات منحصرا في المنظور الذي طرحه «علماء الصحوة» عندما قدموا تفسيرا قرآنيا لكل شيء يماثل التفسير التوراتي، كدأب بعضهم الآخر إخضاع الفرضيات العلمية لفهمهم للنصوص الدينية بزعم أنه إعجاز علمي في القرآن وطب نبوي. الأمر الذي أدى في النهاية إلى تكون أجيال لا تؤمن بالعلم ولا تنتمي لحضارتها ولا تنظر لشواهدها إلا على أنها أصنام وأوثان يجب تحطيمها.

ولم تنس الصحوة الإسلامية الثقافة والفنون والآداب المصرية من حملتها «الدعوية» فحرمت الفنون بأنواعها من موسيقى وغناء وتمثيل، كما استدرجت الكثير من الفنانين والفنانات للاعتزال إما بالإغراء المالي تارة، أو بالزواج من حسناوات السينما تارة أخرى. كما قاد دعاتها حملات النيل من المبدعين بدءا من قاسم أمين وطه حسين ونجيب محفوظ وصولا إلى يوسف إدريس وتوفيق الحكيم وكوكب الشرق، مبتدعين بديلا يسمى «الادب الاسلامي» والأناشيد والهمهمات الإسلامية. الأمر الذي أدى إلى إفراغ الساحة الفنية والأدبية من مبدعيها وتبوء أنصاف الموهوبين من الفنانين الصدارة، حيث تلقفتهم الشركات التي تتحكم في سوق الإبداع وتحرص على تلبية شروط المشتري. بينما سهل الفاسدون السطو على الأرشيف المرئي والمسموع من اتحاد الاذاعة والتليفزيون، كما تكسبوا من وراء بيع أصول الأفلام السينمائية وبعض المخطوطات والحجج والكتب النادرة.

معالجة التناقضات والتطبيل الإعلامى

ووسط هذا التحول، بدا الخطاب الثقافي والإعلامي عاجزا عن معالجة التناقضات التي أخذت تسود المجتمع، على نحو يشير إلى انسداد قنوات الاتصال بين ركني الدولة «الشعب» و«السلطة» حتى ابتكر الوعي الجمعي المصري تعبير «التطبيل الإعلامي «للتدليل على عمق الفجوة بينه بوصفه «المستقبل» وبين الإعلام الرسمي «المرسل» كما لو كان يريد أن يجسد مدى شعوره بعدم التقائه مع هذا النوع من الإعلام في نقطة المصداقية، ورفضه المبالغة التي طالما صاحبت مضمون «الرسالة» التي كان يطرحها، وعدم استساغته للغة التي كان يستخدمها. خاصة أنها ظلت تعتمد ذات السرديات التي كانت سائدة في أزمنة العنفوان الثوري وإدارة الصراع داخليا وخارجيا حتى انكشفت سوءاتها بهزيمة يونيو 1967م.

على الرغم من أنها قامت أيضا بدور محسوب في رفع معنويات الجماهير وشحن عواطفهم الوطنية وقت التحولات المصيرية بالمجتمع، مثلما حدث أثناء انتصارات أكتوبر 1973م، وثورة يونيو 2013م

والحقيقة أن «التطبيل» هو مجرد وصف معبر لما أصاب الجهاز الإعلامي، وعدم قدرته على تلبية طموح الجماهير والفوز برضاها، خاصة بعد ظهور قنوات عربية امتلكت القدرة على التأثير وقيادة التغيير في الوطن العربي. بينما لجأت القنوات المصرية إلى الاستعانة بصحفيين استخدموا أدواتهم الصحفية في إعلام مرئي.

تسطيح الوعى الجمعى

كما استعانت بمعدين لا صلة لهم بعلوم الإعلام والاتصال أسهموا بشكل واضح في تسطيح الوعي الجمعي تجاه موضوعات مصيرية، وتعزيز الضحالة والاستفزاز لدى المتلقين؛ الأمر الذي جعل الإعلام غير قادر على بناء مفهوم للمواطنة الذي يتعزز معه الوعي بالحقوق والواجبات وتتأكد فيه أهمية العلم والعمل والانتاج والابداع. ناهيك عن أنه أخفق أيضا في إرساء قاعدة مشتركة بين الدولة «المرسل» والجماهير «المستقبل» عندما تعمد عدم نقل صوت هذه الجماهير إلى الدولة حول إخفاق جهازها البيروقراطي في تلبية احتياجاتها.

المرسل الحصري لكل الرسائل 

وقد ندرك أن التحولات التي شهدها المجتمع المصري ولدت تناقضات بين احتياجات الجماهير للتطور الاقتصادي والثقافي، وبين الوضع الراهن الذي لا يستطيع تلبية هذه الاحتياجات. ونفهم أيضا أن الإعلام كان له الدور الأنجع في الترويج لمشروعات الرئيس عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لأن الدولة كانت هي «المرسل» الحصري لكل «الرسائل» الموجهة إلى الجماهير «المستقبل» في وقت كان المجتمع مستقرا راضيا، لا تزال فيه الطبقات متماسكة وملامحه الفئوية واضحة بين عمال وفلاحين، ويتمتع فيه الجميع بفرص تعليمية وتثقيفية وصحية واحدة وفرص متكافئة نسبيا.

وبالتالي آمنت هذه الجماهير برسائل عبد الناصر، وتفاخرت بإنجازاته، بعدما نجح الإعلام في خلق وعي جمعي وقاعدة شعبية مؤمنة بأهمية المشروعات التنموية التي كانت تنفذها الدولة، خاصة أنه أقنعها بأن الهدف النهائي لهذه المشروعات هو تحقيق المصالح الأساسية للغالبية العظمى منها، وتعزيز مكانة مصر الخارجية.

اشتراكية الهوى ورأسمالية الاستهلاك

مع هذا، ندرك أيضا أن الإعلام أخذ يواجه صعوبات في توصيل رسائل الدولة إلى الجماهير بعد التغيرات التي طرأت على البيئة المتلقية للرسائل الإعلامية، خاصة أن مساحة عدم الرضا لدى الجماهير المتلقية أصبحت أوسع مما ينبغي؛ لاعتبارات كثيرة منها أنها اشتراكية الهوى والتفكير ولكنها رأسمالية الاستهلاك، لديها تطلعات لا تمتلك القدرة على تحقيقها، وتتهم الدولة بالتقصير تجاهها، وتعتقد أن ما تقوم به الدولة هو لصالح الاغنياء فقط. والأدهى أن الإعلام يغذي ذلك بشكل غير مباشر.

دور الإعلام الإلكتروني في ظاهرة قرن الشعوب

قد يبدو الأمر كأن الإعلام يسهم في هزيمة أهداف التنمية داخل المجتمع، ولكن حقيقة الأمر التي يجب علينا أن ندركها أيضا هي أن العلاقة الوثيقة بين الإعلام التقليدي والتنمية في الدولة قد تفككت، بعد ظهور الإعلام الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي حيث تبدلت أركان الاتصال فأصبح «المستقبل» مرسلا و«المرسل» مستقبلا. وبما أن القرن الحالي هو قرن الشعوب، التي تعاني معظمها الجهالة والحقد الطبقي وانخفاض مستوى التعليم وعدم حصولها على الخدمات على نحو يرضيها عن الدولة، فمن الطبيعي أن تكون الرسالة التي يتبناها الشعب، بوصفه «المرسل» الجديد، انطباعية وغير صحيحة بل ومضللة وربما تولد تغذية راجعة تدفع القواعد الجماهيرية، بتردي مستوياتها التعليمية والثقافية، نحو الانتهازية والتردي الأخلاقي والفوضى الاجتماعية، والانتماء إلى الفكرة أكثر من الإيمان بالقيمة، فتنتمي لفكرة الكسب الحرام على حساب الضوابط والقيم الأخلاقية على سبيل المثال.

كما أننا إذا أدركنا أن الاعلام التقليدي لم يعد ينفرد بدور المرسل لصالح الإعلام الإلكتروني الذي أصبح أكثر تأثيرا في إدارة الوعي عن بعد، بل ويمكنه أن يصبح، في ظل طبيعة الصراع القائم، وسيلة للحرب النفسية وبث اليأس والاحباط في نفوس الشعوب لدفعها إلى الفوضى وتدمير ذاتها وأوطانها. فعلينا أن نؤمن أيضا أن مصر أصبحت في حاجة ملحة إلى إعادة هندسة وعي أبنائها لتعزيز مكامن القوة فيهم والتماسك الاجتماعي حولهم، وتغيير العقلية المجتمعية تجاه الدولة ومشروعاتها التنموية والنظر إليها بمنظور شامل لا يتوقف عند مؤشراتها الاقتصادية بقدر ما تسترعيه مؤشراتها الاجتماعية والإنسانية أيضا، ومن ثم خلق رأي عام يدرك أهمية العلاقة بين التنمية وبناء المجتمع وتحقيق مصلحة الفرد فيه.

الرسالة والوسيلة

وبعبارة أخرى يمكن القول إن الوعي الجمعي في حاجة ماسة لإعادة هندسة وبناء من جديد، كي تنجلي أمامه الحقائق وتزيد قدرته على التمييز بين الصالح والطالح، ويتجدد فيه الأمل في المستقبل والعزيمة على تغيير الواقع إلى الأفضل؛ وتتحول الجماهير إلى قوة دفع للتنمية بدلا من أن تظل غير مدركة لأبعادها وغير مبالية بأهميتها ضمن الرؤية الشاملة للدولة. ولكي يتحقق ذلك فلابد من دمج الثقافة «الرسالة» بالإعلام «الوسيلة» لأنهما من أهم ركائز هندسة الوعي الصحيح والمواطنة الصالحة وتعزيز القيم بالمجتمع، من خلال تخطيط استراتيجي يضع العمل الثقافي والإعلامي بالدولة أمام مسئولياته نحو دمج متطلبات التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ضمن أولوياته. وذلك من خلال المقترحات التالية:

  • إعادة هيكلة الجهاز الإعلامي والثقافي بنيوية تضعه في موضع قيادة الإبداع وتعزيز الابتكار لدى الرأي العام، وتنمية مهاراته المختلفة التي تحتاجها الدولة في تنمية مواردها البشرية، مع الحرص على نشر الطاقة الإيجابية والبهجة لتعديل المزاج العام للمواطنين والارتقاء بذوقهم.

  • بناء نظام إعلامي يربط بين تقنيات الوسائط التكنولوجية المختلفة لإنتاج مواد إعلامية ذات محتوى علمي يحقق أهداف التنمية ويرفع مستوى الوعي الاجتماعي تجاه التطورات المختلفة. وذلك من خلال إفساح مجال التعاون بين وسائل الإعلام التقليدي والإعلام الالكتروني في إنتاج محتويات ثقافية وتعليمية وترفيهية ورياضية… إلخ فضلا عن بناء محتوى علمي مدعوم بالتقنيات المتقدمة، على أن تكون آلية إخراجه على مستوى عال من الجودة والإبهار البصري.

  • إنشاء منظومة اتصالات شاملة ومتكاملة لديها الفهم العميق بتطورات العصر وتحول قواعد الاتصال والعمل الإعلامي، لإدارة جميع المنصات بطريقة مبتكرة وضبط محتوياتها وفق استراتيجية الدولة، وتخصيص جوائز ومحفزات مادية ومعنوية لتشجيع أصحاب الابتكار العلمي والمحتوى القيمي الأكثر تأثيرا في الرأي العام، مع إنشاء آلية مراقبة وتتبع للتخلص من المحتويات السلبية، وطرح مبادرات للتطوير المستمر للمحتويات والنشر الاستراتيجي للمحتويات القائمة على التقنيات المتقدمة.

  • التركيز على نشر حقائق تاريخ مصر والمنطقة العربية بشكل موضوعي لتعزيز الفهم الصحيح بالتاريخ وعرض الأماكن والمزارات التاريخية المختلفة بوصفها مرآة للتعلم واستخلاص القيم والدروس التاريخية لخلق مستقبل متين. فضلا عن إبراز القيم الروحية لتوريث الثقافة الاجتماعية والتاريخية بين الأجيال، وخلق فهم عميق لديها بأبعاد التنمية الاستراتيجية بالدولة.

  • التحليل الموضوعي الشامل للأوضاع الداخلية والخارجية وزيادة الوعي بخطورة الزيادة السكانية على التنمية من حيث زيادة الضغوط على التوظيف والضمان الاجتماعي والتعليم والرعاية الصحية والموارد الطبيعية والتنمية الاقتصادية التي تعد أساسا للتنمية الاجتماعية وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين وجودة الحياة بالمجتمع بشكل عام

  • إنشاء مراكز للدراسات والبحوث العلمية لنشر المعارف العلمية ودفع روح الإبداع والابتكار إلى الأمام، وتطوير المشروعات الثقافية بالدولة

  • وضع خطة استراتيجية ذات مديات متعددة لتطوير الأداء الثقافي والإعلامي لمواكبة المتغيرات الداخلية والخارجية وتلبية احتياجات بناء الوعي الجمعي.

عن الكاتب

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *