كانت الأمطار تهطل بشدة، وأنا أخرج من محطة مترو الأنفاق في لندن لكي أتجه إلى مبني إذاعة الـBBC لكي أجري مناظرة مع الجنرال شارون. حول حرب أكتوبر في برنامج بانوراما، الذي كان يقدمه الإذاعي البريطاني الشهير، ادجر الآن في هذا الوقت.
كنت وحيدا، ليس معي، غير المظلة التي أحتمي بها من أمطار لندن الرهيبة، وفي يدي الثانية، البدلة الإسموكن التي قمت باستعارتها من زميلي في الكلية الرائد الكويتي عدنان عبد الغفور، لأن مرتبي في البعثة لم يكن يسمح لي بشراء هذه البدلة الإنجليزية الفاخرة.
ووصلت إلى مبني الـBBC.
وكانت هناك جموع غفيرة من الجالية اليهودية ترحب بالجنرال شارون وتشجعه، وهو يدخل هذه المناظرة مع الضابط المصري الذي جاء يدرس في بريطانيا، المهم أن ينتصر شارون. في هذه المناظرة، ولن أحكي تفاصيل قصة دخولي إلى المبنى.
عموما. كانت حرب ٧٣ عيد الغفران أو يوم كيبور Yom KIPPUR WAR هي أحدث حرب تقليدية تمت في العصر الحديث بين دولتين تمتلك كل منها أحدث تقنيات العصر من الأسلحة والمعدات فلقد نالت هذه الحرب اهتمام العديد من المؤسسات ومراكز الدراسات الاستراتيجية في كل انحاء العالم حتى القنوات التليفزيونية .
وهذا ما دعا قناة BBC البريطانية عام ۱۹۷۵ إلى أن تدعوني لعمل مناظرة علمية مع الجنرال الإسرائيلي آرييل شارون قائد القوات الإسرائيلية في معركة ثغرة الدفرسوار غرب قناة السويس ولقد قام بالتحكيم على هذه المناظرة أساتذة من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن The International Institute for Strategic Studies أو IISS .
كان هذا المركز يجمع خيرة الباحثين العسكريين في مجال الاستراتيجية والأمن القومي في العالم.. وكانت إصداراته كل عام تعد من المراجع العلمية التي يعتمد عليها كل الباحثين العسكريين في العالم كله.
ولذلك كانت هناك لدي قناعة بحيادية هذا المعهد وقدرته على التحليل الدقيق لما قامت به القوات المصرية في مرحلة التخطيط و إدارة أعمال القتال.
وكنت قد أنهيت دراستي في كلية القادة والأركان المصرية وكان ترتيبي الأول في التخرج وطبقا للنظام المعمول به في القوات المسلحة المصرية فقد تم ترشيحي للدراسة في كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا في دورة عام ١٩٧٥ أي بعد إنتهاء حرب أكتوبر مباشرة ، حيث سافرت إلى لندن عام ١٩٧٤ لحضور دورة التأهيل قبل الدورة الأساسية، وبدأت الدراسة وكنت في هذا العام طالب في كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا .. وهي كلية من أعرق.. وأقدم كليات القاهرة.
عندما بدأت بشرح خطة العبور المصرية واقتحام خط بارليف.. حيث ركزت تماما على أن التخطيط للعملية الهجومية لاقتحام خط بارليف وعبور القناة.. كان تخطيطاً مصريا.. خالصاً. نابعاً عن الفكر العسكري المصري.. تم بعد خبرات طويلة.. في حرب الاستنزاف.. وتدريبات شاقة على عمليات العبور في دلتا نهر النيل لمدة 5 سنوات كاملة من عمر حرب الاستنزاف بعد أن استكمل الجيش المصري معداته وأسلحته التي فقدها في حرب ١٩٦٧..
ولقد جاء السؤال سريعاً.. ومباغتاً من أساتذة معهد الدراسات الاستراتيجية. على الهواء مباشرة كيف كان التخطيط مصريا.. والذي رأيناه.. إنكم إلتزمتم بتكتيكات وأساليب القتال في العقيدة السوفيتية عن أعماق المهام القتالية.. كالمهمة المباشرة.. والمهمة التالية ..!!
لحسن الحظ عرضت محطة BBC صورة لميدان القتال اعتبرته انفراداً في هذا الوقت.. حصلت عليه من الولايات المتحدة الأمريكية … لذلك أشرت إلى الخط الذي وصلت إليه القوات المصرية شرق القناة في رأس الكوبرى من فرق المشاة المصرية الخمس، وأوضحت لهم.. أن هذه الخطوط التي وصلت إليها قوات رأس الكوبرى.. لم تكن مبنية على أساس أعماق المهام كما في العقيدة السوفيتية..
وإنما تم التخطيط لها على أساس مدى حماية خط حائط الصواريخ للدفاع الجوي غرب القناة.. فهناك بطاريات للصواريخ في الأمام وأخرى في الخلف.. اختلفت مواقعها حسب طبيعة الأرض في البر الغربي..
الأمر الذي أدى إلى آلا تتعدى القوات المصرية في رأس الكوبرى.. خط حماية حائط الصواريخ.. مما أدى إلى حرمان القوات الجوية الإسرائيلية من التدخل نهائياً… بأي أعمال قتالية ضد قوات رأس الكوبرى المصرية.. شرق قناة السويس..
وكان خير دليل على ذلك.. الأوامر الصريحة الواضحة التي صدرت من قائد القوات الجوية الإسرائيلية لقواته الجوية يوم 6 أكتوبر.. فور عبور قواتنا قناة السويس.. بعدم الإقتراب من قناة السويس لمسافة ١٥ كيلومتراً .. التي كانت بالطبع مسافة عمل وتغطية حائط الصواريخ المصري..
ومن هذا المنطلق تم حرمان الذراع الطويلة للجيش الإسرائيلي (قواته الجوية) من العمل ضد القوات المصرية طوال عملية اقتحام قناة السويس وإنشاء رؤوس الكباري.
وهو ما أطلق عليه الخبراء العسكريون في العالم أنذاك.. أن المصريين.. طبقوا مبدأ جديد في أشكال عمليات القوات الجوية.. وهو تحييد القوات الجوية المعادية (Neutralizing Enemy Air Forces) وهو أسلوب لم يكن مطبقاً من قبل.
والجدير بالذكر أن هذا الأسلوب أصبح يطبق في جميع المراجع العسكرية في العالم الآن ، ومعه شرح أن ذلك هو ما نفذته القوات المصرية في حرب ٧٣ .
ولقد عرضت خطة العبور واقتحام خط بارليف بالتفصيل.. وكيف أن القوات المسلحة المصرية أقتحمت قناة السويس.. بخمس فرق مشاة مترجلة على مواجهة واسعة.. وأن ذلك القرار أربك حسابات وتقديرات القوات الإسرائيلية..
وقفت الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية عاجزة عن القيام بالهجمات المضادة ضد قوات رؤوس الكباري المصرية في انتظار تحديد المجهود الرئيسي لهذه القوات.
وذلك طبقاً لخطة الدفاع المتحرك التي كانت إسرائيل تطبقها للدفاع عن سيناء.. وأشرت أن خطة الدفاع الإسرائيلية التي أعتمدت على نقاط خط بارليف القوية. ومعها احتياطيات على أعماق متعددة.. فقدت الاتزان الدفاعي.. ووقفت عاجزة .. أمام مفاجأة هجوم الخمس فرق على مواجهة واسعة وعدم قدرة القوات الجوية الإسرائيلية على تقديم أي معاونة للاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية.
وعندما قامت الاحتياطيات الإسرائيلية لخط بارليف بالهجمات المضادة.. كانت ضعيفة.. ومبعثرة.. وتحطمت أمام الخطة الرائعة المضادة للدبابات التي نفذتها لأول مرة في التاريخ عناصر مشاة مترجلة.. دون دعم من دبابات التعاون الوثيق التي لم تصل لرؤوس الكباري إلا في اليوم التالي بعد تشغيل الكباري.
وجاء تعليق أساتذة معهد الدراسات الاستراتيجية.. أن توقف القوات المصرية وتعزيز رؤوس الكباري.. تحت مظلة صواريخ الدفاع الجوي المصري.. حرم الإسرائيليين من تنفيذ خطتهم الدفاعية بإسلوب الدفاع المتحرك Mobile Defense من استدراج القوات المصرية إلى مناطق احتواء وقتل لتدميرها في العمق..
ولذلك جاء إعلان موشيه ديان… وجولدا مائير يوم 9 أكتوبر ۱۹۷۳ بهزيمة إسرائيل.. اعترافاً كبيراً بتفوق التخطيط المصري في المرحلة الإفتتاحية من الحرب.. علاوة على الأداء المتميز لتنفيذ هذا التخطيط.
وفي عام ٧٤ عقدت مجموعة Pentagon Office of Net Assessment وقد أنشئ عام 1973 في البنتاجون لتطور مفاهيم القتال بخبره حرب ۷۳ سواء من الجانب المصري أو الإسرائيلي، وخرجت مجموعة Pentagon Office of Net Assessment.
بالخلاصة أن المصريين نجحوا في إفشال خطة الدفاع المتحرك والتي يجب تطويرها لأنها أساس العقيدة الدفاعية في حلف الناتو وبعد عام كامل لهذه المجموعة تم تطوير فكر الدفاع المتحرك في العقيدة الغربية لتكون نظام Active Defense منذ عام 75 لقد تغير هذا المفهوم بسبب ما حققه المصريون في حرب أكتوبر ٧٣ لذلك اندفع شارون ليقول إنه لطالما عارض الجنرال بارليف..
وخطته للدفاع عن قناة السويس.. وبناء هذا الخط الذي وصفة شارون أنه مثل الجبن السويسري ذو الثقوب.. وأن إسرائيل دفعت الثمن باهظاً.. عندما لم تستمع لرائيه حول تنظيم الدفاعات في سيناء.. ونفذت خطة الجنرال بارليف.. رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك ..
وقبل أن أنطلق بالرد، تولى أستاذ من معهد الدراسات الاستراتيجية التعليق قائلاً .. سيادة الجنرال… أشبعتمونا فكراً.. وأراء.. ونظريات.. بعد حرب ١٩٦٧ .. نظراً إلى خبراتكم وتطبيقكم هذه النظريات التي حققت بها النصر عام ١٩٦٧..
والآن نسمع أن كل هذه المفاهيم والنظريات الإسرائيلية خاطئة.. أعتقد سيادة الجنرال شارون.. أن ما فعله المصريون كان رداً عملياً على أن هذه النظريات.. لم تكن دقيقة.. أو صحيحة. ويبدو أن الجنرال شارون أعجبه هذا التحليل من معهد الدراسات الاستراتيجية الذي يدين الخطة الدفاعية الإسرائيلية شرق القناة.. حيث قرر استغلال ذلك كله لصالحه الشخصي.. ليقول.. إنه من ذلك المنطلق وبعد إعلان موشيه ديان ومائير.. هزيمة إسرائيل.. جاء هو المنقذ .. لينفذ عملية (الغزالة) ويبدأ في التفكير في ثغرة الدفرسوار.
ولقد نال حائط الصواريخ المصري استحسان لجنة معهد الدراسات الاستراتيجية ، حيث أكدت اللجنة في حوارها أنه لولا وجود حائط الصواريخ لما نجحت القوات المصرية في بناء الكباري وتحت سترها ثم عبور المدرعات والمدفعية الى شرق القناة.