الدولة الصهيونية متواصلة في عدوانها الوحشي على قطاع غزّة برّا وبحرا وجوا، تحوّلت التوغلات المتفرّقة إلى اجتياح برّي تشارك فيه مئات الدبابات والمدرعات، إضافة إلى سلاح الهندسة والآلاف من المشاة. وحتّى كتابة هذه السطور، وصل عدد الشهداء والمفقودين تحت الأنقاض في غزة إلى حوالي 11 ألفا والجرحى إلى 22 ألفا، وتهدّمت عشرات آلاف المنازل، وتحوّل مئات الآلاف مرة أخرى إلى لاجئين في وطنهم.
ورفضت إسرائيل، بدعم أمريكي مطلق، وقف إطلاق النار، واتهمت من يدعو إليه بدوافع إنسانية، بأنه داعم للإرهاب ومعاد للسامية. وتقوم آلة الدعاية الإسرائيلية بالترويج إلى أن حركة حماس هي مثل «داعش»، حتى أنها حركة نازية، ووصل الأمر بممثل إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد أردان، إلى وضع شارة صفراء على ردائه، في إشارة إلى أن إسرائيل تواجه «النازية» وأن ليس من حق أحد أن يمنعها من اقتلاعها بالقوة.
وإذ ترتكب إسرائيل الجرائم والمجازر وتتجه نحو المزيد، فهي تقوم بتحضير ادعاءات تبرير الجريمة، ونجد الخذلان العربي ليس في عدم التصدي لآلة الحرب الإسرائيلية على الأرض فحسب، بل ولا حتى في مواجهة آلة الدعاية الإسرائيلية التي هي أهم أدوات الجريمة.
الصهيونية والعنف
على مدى تاريخ فلسطين الحديث، كان لكل معركة وجولة عنف ومواجهة سياقات عينية ومحددة، لكن السبب الرئيس للعنف لم يتغير منذ أكثر من مئة عام، وهو أن المشروع الصهيوني ينتج العنف تلقائيا وبشكل دائم لأنه مشروع غير قابل للتطبيق بالوسائل السلمية، فمن يريد أن يسلب الناس أرضها ووطنها بحاجة إلى العنف والبطش، فصاحب الأرض والوطن لا يتنازل عنهما بلا مقاومة، ولا يمنحهما للمستعمر بطيب خاطر، وهو لن يستقبل بالورود من يريد أن ينتزع منه أرضه وبلده. وحين قررت الحركة الصهيونية إقامة دولة يهودية في فلسطين، فهي أعلنت الحرب على شعب فلسطين، لأن إقامة هذه الدولة تحتاج منطقيا إلى السيطرة على الأرض والجغرافيا، وطرد الناس لتغيير الديموغرافيا، وهذا غير ممكن تنفيذه سوى بالعنف وبالبطش بأهل البلد.
لقد اقترن المشروع الصهيوني بالعنف، الذي أصبح مكوّنا مركزيا وإلزاميا له، ولا مكان من دونه للمقومات الأربعة الأخرى: الهجرة والاستيطان واللغة العبرية والارتباط بقوة إمبريالية كبرى. العنف الصهيوني قائم بشكل دائم عبر التهجير والاستيطان والمصادرة والحصار والاحتلال والتهويد والقمع والبطش والاضطهاد والقتل والتدمير وسلب الحقوق ومحو الآخر وتزييف التاريخ والجغرافيا، والقائمة طويلة، وهو بالتأكيد ليس حدثا عابرا له بداية ونهاية، لقد بدأ مع بداية المشروع الصهيوني ولن ينتهي الا بنهايته وتفكيكه وصناعة سلام حقيقي ثنائي القومية، يستند إلى المساواة التامة وإلى تصحيح الغبن التاريخي الذي لحق بشعب فلسطين.
أقرب إلى مجزرة منه إلى حرب
ما نراه اليوم من جرائم ومجازر الحرب العدوانية الضروس، التي تشنها إسرائيل على شعب فلسطين في غزة، هو حلقة في سلسلة العنف، تتميز بالتكثيف وبالتصعيد وبالمزيد من الفظاعة، وبكونها أقرب إلى مجزرة ضد المدنيين، منها إلى حرب بين محاربين. وتعتبر إسرائيل ما تقوم به من جرائم ضربا من «العنف العقلاني»، اللازم لضمان الوجود وحماية الوجود، وعليه فهو بنظرها ليس «فشة خلق» أو “فش غل”، وإنّما سلوك مدروس ونهج له منطقه، حتى لو كان هذا المنطق رهيبا وفظيعا، وحتى غبيا إلى حد كبير، ومن بين أهداف إسرائيل في زرع الموت ونشر الدمار في قطاع غزة:
أولا، محاولة كي الوعي بأن من يتحدى إسرائيل يدفع ثمنا باهظا هو ومن حوله. واستعمال العنف غير المتكافئ ضد أهل البلاد، عند كل تحد، هو من الأساليب التقليدية لأنظمة الاستعمار الاستيطاني، وما يميز النظام الإسرائيلي هو أنه الاستعمار الاستيطاني الوحيد الذي لم يحسم المعركة، فما زال شعب فلسطين حيا يرزق رغم كل المآسي. وما دام هو كذلك لن يهدأ لإسرائيل بال، وستظل تلجأ إلى العنف الشديد لردع المستعمَر عن السعي للحرية وستظل تخاف منه خوف المجرم من الضحية.
المشروع الصهيوني ينتج العنف وبشكل دائم لأنه غير قابل للتطبيق بالوسائل السلمية، فمن يريد أن يسلب الناس أرضها ووطنها بحاجة إلى العنف والبطش
ثانيا، تريد إسرائيل ترميم ردعها أمام شعبها، الذي تهاوت أمام ناظريه صورة الجيش الذي لا يقهر، وصار يحس بعدم الاطمئنان وبالخوف مما يحيطه، وأصبح يشكّك في قدرة جيشه في توفير الأمن. وتخشى الدولة الصهيونية أن يؤدّي فقدان الثقة إلى الهجرة من البلاد، أو إلى هجرة من المستوطنات المحاذية لحدود غزة ولبنان، وكلا الأمرين هما ضربة في صميم المشروع الصهيوني، الذي يعتبر الهجرة إلى البلاد والاستيطان من ركائزه الأساس، إضافة لذلك تسعى قيادة الجيش والحكومة إلى تهدئة خواطر الشارع الإسرائيلي عبر إرواء التعطش للانتقام ولسفك الدم الفلسطيني. لست من هواة إطلاق مثل هذه الأحكام وأكتب هذا بعد أن كدت «انفلق» لسماع ومشاهدة وقراءة آلاف المداخلات من اليسار ومن اليمين، التي حملت هذا المعنى وأسوأ منه.
ثالثا، تسعى إسرائيل عبر القتل الجماعي والدمار الشامل إلى دق الأسافين بين جماهير غزّة وحركة حماس، وتقوم مباشرة وعبر وكلائها في الغرب والعالم العربي بالترويج لفكرة أن حماس تتحمل مسؤولية القصف الإسرائيلي الوحشي على غزة، وكأن إسرائيل كانت ستتصرف بشكل مختلف لو كانت أمامها الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية. قتل المدنيين لتحقيق مآرب سياسية هو التعريف الدولي للإرهاب، وإسرائيل تفي بكافة معايير «الإرهاب».
رابعا، تحاول الدولة الصهيونية استعادة هيبتها وردعها قبالة أعدائها وحلفائها، بعد ما حل بها في ضربة السابع من أكتوبر. وهي تلجأ إلى استعراض قدراتها في القتل والتفجير وارتكاب الجرائم بهدف استعادة روحها القتالية الشرسة، وتوجيه رسالة إلى لبنان والضفة الغربية وإيران وإلى كل من يخطر بباله أن يتحداها، بأنه سيلقى دمارا وقتلا، كما غزة الآن. القتل الجماعي للمدنيين والأطفال هو غاية مقصودة لتحقيق هدف الردع الإسرائيلي.
عملية برية متدحرجة
قد يشفي الدمار والخراب والقتل والتهجير في غزة غليل الشارع الإسرائيلي، وقد تبني قيادات إسرائيلية مجدها فوق جماجم الغزيين، لكنّ هذا لا يجعل المجتمع الإسرائيلي يشعر بالاطمئنان، بعد الذي حدث في السابع من أكتوبر. ويسود إجماع كامل بضرورة القضاء على حركة حماس، وأنّه من دون تحقيق هذا الهدف لن يتحقق الأمن لـ»شعب إسرائيل»، بموازاة ذلك هناك إجماع أيضا على أن القصف الجوي لا يحقق هذا الغرض وهناك حاجة لعملية برية. كان هناك خلاف حول العملية البرية بين نتنياهو، الذي تردد وخاف، وقيادة الجيش، التي تلهفّت واستعجلت.
ووصلت القيادة الإسرائيلية بشقيها السياسي والأمني إلى قرار بالقيام باقتحام برّي «منضبط» وحذر ومتدرج، خوفا من التورط ومن الفشل ومن إثارة غضب الرأي العام في المنطقة والعالم. وتقوم إسرائيل بالتعتيم على مجريات الأحداث في العملية البرية، وهي تتبع سياسة الغموض والتمويه كتكتيك عسكري سياسي. وإذ تجري العملية في «الظلام»، فإن القلائل، حتى في إسرائيل نفسها يعرفون حقيقية ما يجري. وحين يعلن وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، والناطق بلسان الجيش، البريغادير جنرال دانيئيل هغاري، أن المعارك ضارية والخسائر فادحة، فهما لم يقدما معلومات سوى عن مقتل 12 جنديا إسرائيليا وجرح آخرين وتعطيل بعض الآليات العسكرية، ولكن يبدو أن الخسائر الإسرائيلية ستكون أكبر بكثير أخذا بعين الاعتبار أن الجيش الإسرائيلي لم يدخل سوى إلى مناطق طرفية في مدينة غزة، واصطدم بمقاومة شرسة من المدافعين عن المدينة.
لا تفصح القيادة العسكرية الإسرائيلية عن خططها، ولا حتى عن أهدافها العينية، وتكتفي بترديد مقولة «تدمير القدرات القتالية لحركة حماس». ومع ذلك، يستدل من تصريحات مسؤولين عسكريين سابقين، أن المعركة لن تكون متدرجة فقط، بل ستكون متدحرجة أيضا، فبعد كل مرحلة سيجري الجيش تقييما ليقرر التدحرج نحو الأمام أو إلى الوراء، تبعا للنتائج وحساب المخاطر. لقد كانت المرحلة الأولى من الحرب على غزة قصفا جويا رهيبا على مدن القطاع، وجاءت المرحلة الثانية الحالية لتدمج بين الاجتياح البري والقصف الجوي والبحري. وتهدف هذه المرحلة إلى السيطرة بالكامل على شمال قطاع غزة ومواصلة استهداف المدنيين والمباني السكنية، إضافة إلى محاولة تفجير الأنفاق والوصول إلى مخازن الأسلحة وبطاريات إطلاق الصواريخ واغتيال أكبر عدد ممكن من قيادات وأفراد حركة حماس. وبعد الانتهاء من كل هذا تنوي قيادة الجيش الإسرائيلي إجراء جرد حسابات حول مدى تحقيق أهداف الحرب، فإن اقتنعت بأنه تحقق جزء كبير منها فسوف «تكتفي» باحتلال شمال قطاع غزة والعمل على فرض شروطها، وفي مقدمتها جعل غزة منطقة منزوعة السلاح، مع سيطرة أمنية إسرائيلية. ولكن هناك إمكانية جدية بأن تواصل إسرائيل حربها لاحتلال القطاع بالكامل، والسعي لتحويله إلى ما يشبه منطقة «ب»: إدارة مدنية فلسطينية (أو عربية أو دولية) ومسؤولية أمنية إسرائيلية. هذا ما تريده إسرائيل، لكن يبدو أن رياح غزة تنذر بما لا تشتهيه سفن إسرائيل.
* الكاتب ، نائب فلسطينى سابق بالكنيسيت الإسرائيلي وقيادى بارز بحزب التجمع العربي في الدولة الصهيونية