في الصحفتين الأميركية والإسرائيلية تعبيرات واضحة عن أنّ وقائع الحرب انقشعت عن واقع جديد يمثّل فيه الحزب الخطر الأكبر والتهديد الحقيقي لإسرائيل الذي لا يُقارن بخطر “حماس”، بالنظر إلى الفارق في التسليح والتدريب والعمق اللوجستي والارتباط العضوي بإيران. غير أنّ الإجماع يكاد يكون منعقداً على أنّ الحرب الشاملة مع الحزب متعذّرة في الظرف الراهن لأسباب كثيرة، ليس أقلّها أنّ إسرائيل ليست في متّسعٍ من الوقت والموارد لضربه الآن.
فقد استنزفت إسرائيل أقصى ما في نَفسها الطويل على مدى تسعة أشهر في الحرب على غزة المحاصرة والمنكشفة جغرافياً، فكيف الحال بالجبهة اللبنانية المفتوحة مدداً على إيران؟ أضف إلى ذلك ضيق الوقت المتاح قبل موسم العودة إلى المدارس، والضغط الذي يمارسه المستوطنون الذين أخلوا منازلهم في المستوطنات المحاذية للبنان. كلّ ذلك يجعل عنوان المرحلة في إسرائيل: إنّها حرب ضرورية لكن ليس الآن. وهذا سيكون كافياً للحزب وإيران لإعلان النصر.
غير أنّ العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر متعذّرة أيضاً، فالجبهة التي تحرّكت لا يمكن أن تعود إلى الردع المتبادل إلا وفق معادلة استراتيجية جديدة، ولذلك صياغة معادلة “اليوم التالي” في لبنان لا تقلّ صعوبة عن صياغتها في غزة.
نصيحة “ذا إيكونوميست” لإسرائيل
تقترح “ذا إيكونوميست” على إسرائيل استراتيجية لاستعادة الردع تقوم على ثلاثة أضلاع:
- وضع خطّة لليوم التالي للحرب في غزة وفتح الطريق أمام مفاوضات سلام على أساس حلّ الدولتين، بما يتيح لإسرائيل نقل تركيز مواردها العسكرية من الأراضي الفلسطينية إلى التهديد الأكبر على الحدود الشمالية.
- إعادة الحرارة إلى العلاقة مع واشنطن، نظراً إلى حاجة إسرائيل إليها في أيّة مواجهة مقبلة مع الحزب أو مع إيران، خصوصاً من حيث الغطاء الجوّي.
- وأخيراً، استعادة مسار التطبيع مع الدول العربية، للخروج من العزلة الإقليمية.
هذا في ما يتعلّق بإسرائيل. أمّا ما يتعلّق بإيران فمنذ اندلاع الحرب في غزة كانت لعنوان “وحدة الساحات” وظيفة محدّدة هي الإمساك بأوراق التفاوض. وهذا هو المغزى العمليّ لقول الأمين العامّ للحزب منذ اليوم الأوّل إنّ وقف إطلاق النار في الجنوب مرتبط بوقفه في غزة، وهو نفسه مغزى هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، وهجمات الفصائل المرتبطة بإيران على القوات الأميركية في العراق.
لا ريب في أنّ إيران تدخّلت مباشرة أكثر من مرّة لكبح التقدّم في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة حين كانت تشعر أنّها ليست ممثّلة على طاولة التفاوض بالقدر الكافي. ولا تخطئ الملاحظة أنّ التصعيد في البحر الأحمر كان يزداد كلّما جال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على العواصم العربية، لتقول طهران على طريقتها إنّ التفاوض يجب أن يكون معها، وليس مع أحد غيرها في الإقليم. وفي واقع الحال، لم تهدأ الهجمات الحوثية إلا عندما تقدمت بدأ التفاوض الجدّي بين الأميركيين والإيرانيين في مسقط.
نهاية الاتّفاق النوويّ مع إيران
تبدو إيران الآن أقرب إلى أجواء التفاوض من أيّ وقت مضى، ولذلك قال نصر الله إنّ الحرب ستتوقّف في الجنوب إذا توقّفت في غزة، لكن ماذا عن اليوم التالي في لبنان؟
السؤال مرتبط بطبيعة التفاوض الجاري، بالنار والدبلوماسية، بين طهران وواشنطن. فهل هي لحظة الصفقة الكبرى، أم تعود المراوحة الطويلة الأمد، في منزلة بين الاحتواء والمواجهة؟
ربّما يرفع انتخاب مسعود بزشكيان رئيساً لإيران منسوب التفاؤل بانفراجات في العلاقات بين طهران والغرب، لكنّ طبيعة المرحلة في الولايات المتحدة لا تتيح إنتاج صفقة كبرى من نوع الاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عام 2015، ومزّقه سلفه دونالد ترمب بعد ذلك.
إدارة جو بايدن المنشغلة بالسباق الانتخابي ليست في وضع يؤهّلها للصفقات الكبيرة، ولا هي مستعدّة لمواجهة المزايدات من ترامب في التجمّعات الانتخابية. ولن يكون الوضع أفضل بعد الانتخابات، أيّاً تكن نتائجها. فإذا فاز ترامب فسيعود على الأرجح إلى سياسة “الضغط الأقصى”، وأمّا إذا بقي بايدن في البيت الأبيض فلن يكون بإمكانه أفضل ممّا كان في ولايته الأولى، خصوصاً أنّ المعطيات على الأرض تجاوزت كثيراً معطيات اتفاق 2015، ولم يعد بالإمكان إحياؤه.
التّفاهم الممكن بين أميركا وإيران
قد يكون السيناريو الأكثر تفاؤلاً لمستقبل العلاقات الأميركية الإيرانية أن يعيد البلدان ترميم تفاهمات ما قبل 7 أكتوبر، التي كان مضمونها:
- أن تجمّد إيران التقدّم في تخصيب اليورانيوم.
- وتوقف الهجمات على الأميركيين في ساحات الإقليم.
- مقابل تخفيف غير رسمي للعقوبات بما يتيح لإيران ضخّ نفطها في الأسواق العالمية، وإلى الصين على وجه التحديد.
- ورفع التجميد عن مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية المجمّدة.
أتاحت تلك التفاهمات تخفيف التوتّرات، ووفّرت لإيران موارد ماليّة كانت في أمسّ الحاجة إليها لاستعادة التماسك الداخلي، قبل أن يأتي هجوم “حماس” من خارج سياق الأحداث.
لا شكّ أنّ إيران في حاجة إلى فسحة من الأموال والهدوء لتمرير المرحلة الدقيقة داخلياً. لكنّ إسرائيل والولايات المتحدة تنظران إلى الحزب بعين مختلفة بعد كلّ ما جرى في الأشهر التسعة الماضية. لكنّ ذلك لن يكون إلا في حدود العودة إلى التفاهمات الجزئية والمرحلية.
هذا يعني أنّ لبنان سيبقى ثغراً من ثغور المواجهة الإقليمية وتقاضي الأثمان، أشبه بحكم الحوثيين في صنعاء، وستبقى دولته شبه مارقة ومعزولة في المحيط العربي، لا غاية للغرب فيه إلا أن يبقى البلد مستقرّاً بالقدر الكافي لاستقرار الديمغرافيا السورية اللاجئة فيه، وألّا يتحوّل إلى بؤرة تصدير لقوارب المهاجرين.