تضافرت مجموعة من العوامل في مُخطط المتآمرين، في إطار بدء تأهيل الأرضية لنكسة يناير 2011 بمصر. وعلى ما يبدو، بدأ تنفيذ ذلك، في أعقاب إتمام الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حينما خطب الرئيس الأمريكي وقتها جورج بوش الأبن، في بدايات نوفمبر من نفس العام فيما عُرف بخطاب “آجندة الحرية Freedom Agenda”، قائلاً ضمن أمور أُخرى:”لقد أرشدت أُمة مصر العظيمة والفخورة، الشرق الأوسط إلى الطريق نحو السلام، وينبغي عليها الآن، أن تُرشد للطريق نحو الديمقراطية في المنطقة”.
ولأن قادة جماعة الإخوان وأزلامهم من رموز اليسار، لم يكُن لديهم شجاعة المواجهة المسلحة مع النظام الحاكم في مصر، من أجل التغيير الذي أشار له بوش الأبن بكونه “الديمقراطية”، “استعانوا بصديق” تمثل في حركة حماس.
فالعامل الجغرافي بوجود قطاع غزة على الحدود مع مصر، وعامل التمكين السياسي بمنح حركة حماس المُتاجرة بالدين وأرواح الفلسطينيين القوة لتفتيت الحركات الفلسطينية المدنية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، ومن ثم إجراء “إنتخابات المرة الواحدة”، حيث تنتهي الديمقراطية بعد أن تمتلك السلطة، لتمنع أي حركة أُخرى من أن تقتلعها من موقعها، وهي المُنتمية لجماعة الإخوان المُعادية للنظام الوطني في مصر: كل ذلك شكل الظروف المُناسبة، لصناعة منطقة مُعادية لمصر على حدودها، يمكن أن يتم الإستعانة بها عند الوصول للنقطة الحرجة.
وفي هذا الإطار، طردت حركة حماس، مُمثلي حركة فتح الفلسطينية، من قطاع غزة، بعد ما عُرف “بتقاتل الإخوة” ما بين 7 و15 يونيو 2007 في القطاع. وكان إريل شارون قد نفذ خطته لـ “فك الإشتباك” أُحادي الجانب، بحيث منح حماس حرية العمل في القطاع، والتمكُن كلياً منه، منذ تنفيذ إنسحابه في 12 سبتمبر 2005. وما إن إستتب الأمر لحماس بعد طرد رجال فتح، حتى بدأت إسرائيل حصاراً لغزة.
ولقد حاولت مصر في هذا الإطار، وعبر عدة جولات، وتحت إدارة اللواء عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية حينئذ، عقد الصلح ما بين الفصائل الفلسطينية وحماس دون جدوى، لأن حماس كانت تريد قرار غزة بيدها وحدها، لإستكمال المخطط التي من أجله تقلدت حكم القطاع.
فلأن حماس لم تعترف قط بمسارات إتفاقات أوسلو للسلام، ولم تتفق يوماً مع إسرائيل “علناً” حول أي شيئ، فلقد بدأت في إطلاق الصواريخ على إسرائيل من غزة، مستفزة الدولة الصهيونية للهجوم على القطاع. وبالطبع، يمكن لأي إنسان واعي، أن يعرف فارق القوة ما بين حماس وإسرائيل، ولكن الغرض من هجوم حماس على إسرائيل، لم يكن يوماً، ما وصفته حماس بكونه مقاومة للحصار.
لقد شهدت الحرب الأولى ما بين حماس وإسرائيل في ديسمبر 2008 – يناير 2009، هجوماً إعلامياً شديداً من بعض أنظمة المنطقة، من بينها سوريا بشار وقطر آل ثاني وتركيا أردوغان وإيران خمانئي، بالإضافة إلى حزب الله وحماس. ولم يكن الهجوم موجهاً ضد إسرائيل، التي كانت تضرب غزة دون رحمة وتقتل الأطفال الفلسطينيين، ولكن كان موجهاً إلى مصر مبارك، كما هو موجها اليوم من الكثيرين في المنطقة، ضد مصر السيسي. وكانت المطالبة كما هو اليوم، بفتح معبر رفح للفلسطينيين.
ولا نعرف إن كان بشار الأسد على سبيل المثال، كان يعي أنه بمطالبته فعل ذلك، يُساهم في “تفكيك القضية الفلسطينية” وهو ومن قبله أبيه، اللذان أطلقا على سوريا “قلب العروبة النابض”، أم أنه كعادته التي نعرفها، كان يُعبر عن إندفاع في الهجوم بالكلمات الفارغة، من أي فعل يُظهر أي عروبة. فالكلمات، يقدر عليها الجميع، ولكن الأفعال لا تكون، إلا لمن يعي العواقب. وهو تجرع المُر من قطر وأُمراءها، بعد أن وقف معهم في تلك الأيام البعيدة، ضد مصر، لفتح المعبر، رُغم النصائح التي منحها إياه الرئيس مبارك، رحمه الله.
وكانت مصر تعرضت لإختبار من قبل حول نفس المعبر، حينما فجرته حماس يوم 23 يناير 2008 قاتلة جندي مصري كان يقف في حراسته مع غيره، وأندفع نحو 750 ألف فلسطيني إلى سيناء من خلاله. وكان الرهان وقتها على أن يطلق النظام المصري، النار على الفلسطينيين الذين إندفعوا إلى داخل سيناء، إلا أن مصر لا تقوم بذلك أبداً. فغيرنا يمكنه أن يقتل الفلسطينيين أو يطردهم، ولكننا أبداً لم ولن نفعلها.
وهكذا، عاد الفلسطينيون الذين دخلوا سيناء إلى قطاع غزة، كما خرجوا منه. وقد كان مقصوداً من مهاجمة مصر إعلامياً، خلال حرب 2008-2009، أن يُقال أن مصر، تُحاصر أهل غزة، مثلما تُحاصرهم إسرائيل. إلا أن مساعدات مصر لغزة، لم تتوقف عبر المعبر، خلال تلك الأيام أو حتى بعد الحرب.
وعندما وقعت نكسة يناير، كانت حماس ضمن أضلُعها الأساسية، وكان أفرادها يتظاهرون في الميدان مع المصريين، ضد النظام المصري. وقد ساهمت حماس وحزب الله، في إقتحام السجون وتهريب الإرهابيين منها وقتل المتظاهرين أثناء النكسة، كما عرفنا لاحقاً.
ومع الوقت، كان نفس السيناريو يتكرر في حروب إسرائيل ضد غزة بعد إستفزازات من قبل حماس، سواءً كان الحديث عن حرب العام 2012 أو 2014 أو 2021، حتى الوصول إلى ما نحياه اليوم من حرب إبادة غير مسبوقة ضد فلسطيني غزة، وكما هو الحال في الماضي، بدأ إستفزاز البعض لمصر، من خلال ترديد السؤال الدائم: “أين الجيش المصري، مما يحدث في غزة؟”، وكأن الدول العربية الأخرى قد تم إخصاء قدراتها على الحرب!!
ولكن وكما هو الحال فيما مضى، لم تُستفز مصر إلى الدخول في الحرب مع إسرائيل، وقامت بدورها المعهود والمشهود، بإحلال الهدنة ما بين إسرائيل وحماس عدة مرات، والنداء الدائم بوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات إلى غزة، متى تمكنت من ذلك دونما أي إنتهاك للقانون. كما قامت بتدشين حملة دولية من أجل إعلام العالم بممارسات الإحتلال الإسرائيلي، آخرها المُذكرة المقدمة من الحكومة المصرية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، بشأن الممارسات الإسرائيلية في الآراضي المحتلة، والتي ترافعت فيها السيدة الدكتورة ياسمين موسى المستشارة القانونية بمكتب وزير الخارجية المصري سامح شكري، أمام المحكمة الدولية، يوم الأربعاء الموافق 21 فبراير من العام الحالي 2024، مُظهرة الحقائق في هذا الصدد.
وكان الرهان منذ بداية عملية 7 أكتوبر 2023 من جانب حماس أو بالرد الإسرائيلي المُبالغ فيه للغاية، والهجوم الإعلامي تجاه مصر من قبل الإخوان ومن على شاكلتهم من كارهي مصر، أن تُستفز مصر، لتدخل بإندفاع ودون تخطيط حرباً ضد إسرائيل، في عملية تُعبر عن حنجوريات الماضي وتدمير جيوش المنطقة.
إلا أن الرهان هنا أيضاً، كان خاسراً، لأن مصر دولة مؤسسية في شأن سياستها الخارجية والدفاعية، بحيث لا يمكن بأي حال من الحالات، أن تُستدرج لأي عمل عدائي، إلا حال الإعتداء على أمنها القومي. ولقد عبر الرئيس السيسي، عن أن أي محاولة “للتهجير القسري” للفلسطينيين من غزة إلى سيناء مصر أو الهجوم على محور فيلادلفيا، يُعد تهديداً مباشراً لمصر، يمكن حال حدوثه تعليق معاهدة السلام مع إسرائيل. ومن معرفة الأُسس السياسية المصرية، عبر الزمن، سواء بقراءة ما لم نشهده منذ 11 يونيو 1967، أو بمراقبة ما عشناه؛ نعي تماماً أن مصر تعني ما تقول، ولا تتكلم إلا بحساب “مؤسسي”، لا يخضع للأفراد ولكن لسياسة الأمن القومي الأعلى للبلاد.
لقد خسر كل من أراد سحب مصر لمواجهة غير محسوبة. وخسر كل من ظن أن مصر بمقدورها أن تصوب سلاحها تجاه الأشقاء. وخسر كل من ظن أن بإمكانه كسر الإرادة المصرية وضرب سيادة القرار في جمهورية مصر العربية. فمصر هي من تختار الزمان الذي تتخذ فيه قرارها، دون إملاء أو خضوع لرغبات الخونة والعُملاء أو العدو الذي نجح نجاحاً باهراً، في بعث كره المصريين له، وولادة كره الشباب ممن لم يروا جبروته ووحشيته من قبل.
إننا في مصر، ولإيماننا بالسلام لا نحارب إلا مع التهديد المباشر لأمننا القومي، وحين نُحارب يكون البديل ما بين النصر أو الشهادة. فمصر على قلب رجل واحد، لأنها أُمة، لديها حدود واحدة على مر آلاف السنين، بعكس كل من حولها. ومثلما جسد المصريين القُدماء الخلود بأهراماتهم التي ورثناها عنهم، نُحافظ نحن في سبيل صون أرضنا، على الموت حتى تُكتب لنا الحياة على أرض المحروسة، التي ستظل دوماً المحروسة، وستنتصر في حربها القادمة ضد الصهاينة ومن عاونهم من خونة بعون الله ومشيئته ..
ماهو “مصر مش وجهة نظر”
تحية للشعب المصري العظيم وشخصيته الأصيلة المُستقاة من شخصية بلاده،
وتحية للشعب الفلسطيني المناضل في غزة والضفة،
ولعنة الله على الصهاينة وأزلامهم من الإخوان وحماس وحزب الله وكل الجماعات المُتطرفة،
وتحيا جمهورية مصر العربية، التي تُغير، ولن تتغير سياستها العليا، رضوخاً لأياً كان،