يصعب تقويم ما فعله أسانج في هذا العالم ولزوميّة ما كشفته وثائقه من خلال “ويكيليكس” في هذا العالم. قدّم “الفارس” نفسه بطلاً متمرّداً على “المنظومة” فاضحاً لأسرارها. حتى إنّ الإكوادور قدّمت له، بصفته مواطناً إكوادوريّاً نال جنسية البلد عام 2017، سفارتها في لندن ملاذاً قبل أن يطرده منها بعد 7 أعوام الرئيس الإكوادوريّ لينين مورينو، فانتقل إلى سجن بلمارش البريطاني الشديد الحراسة منذ عام 2019.
“روبن هود” العصر
على الرغم من اعتباره “روبن هود” العصر في نشره أسرار الولايات المتحدة، فإنّ شخصية وسيرة أسانج أثارتا أسئلة بشأن حوافز الرجل ودوافعه. أسّس موقع “ويكيليكس” عام 2006 لفضح أسرار دفاعية أميركية خطيرة من خلال نشر مئات آلاف الوثائق الرسمية السرّية. أخرج تلك الوثائق من خزائن واشنطن وجيشها الحصينة. واتّهمته الولايات المتحدة بأنّه نشر في عام 2010 عبر موقعه “ويكيليكس” 250 ألف برقية دبلوماسية ونحو نصف مليون وثيقة سرّية تتناول أنشطة الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان. في ذلك العام بات أسانج نجماً و”ويكيليكس” حدثاً دولياً ضخماً. نشر في نيسان من ذلك العام لقطات فيديو تُظهر جنوداً أميركيين وهم يطلقون النار من مروحية على مدنيين عراقيين ويقتلون 18 منهم في العاصمة العراقية بغداد.
حقّقت واشنطن وقضت محكمة عسكرية عام 2013 بسجن المحلّل العسكري السابق، تشيلسي مانينغ، لوقوفه خلف هذا التسريب الهائل. لكنّ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عمد إلى تخفيف هذه العقوبة قبل أن يتمّ الإفراج عن مانينغ الذي بات رمزاً لقضية التحوّل الجنسي في أيار 2017. وما بين القضاء وسماحة البيت الأبيض باتت القضية خاضعة لوجهات نظر.
تمتّع جوليان أسانج، الأستراليّ المولد، بحرّية الحركة إلى أن اتّهمته محكمة سويدية بقضية اغتصاب وتحرّش وطالبت سلطات بريطانيا التي كان يوجد فيها بتسليمه. وحين بدا أنّ محاكم لندن مالت إلى ذلك، لجأ أسانج إلى سفارة الإكوادور بلندن بعدما منحته هذه الدولة، برئاسة الرئيس السابق رافاييل كوريا آنذاك، حقّ اللجوء السياسي في 16 آب عام 2012.
ما بين اللجوء والسجن خاض أسانج معركة قضائية كانت مساراتها تنخفض وتعلو وفق التحوّلات الجارية في هذا العالم. تحرّكت الجمعيّات المدافعة عن حقوق الإنسان وحرّية الصحافة والتعبير للضغط على محاكم بريطانيا لعدم تسليمه إلى الولايات المتحدة. كان صدر حكم في هذا الشأن، وبدا أنّ الأمور ذاهبة بهذا الاتّجاه ولا يحتاج التنفيذ إلّا إلى مراحل قانونية قبل نقله من سجن بريطاني إلى سجن أميركي. غير أنّ محاكم جلالة الملك في بريطانيا وافقت، فجأة، على قيام أسانج بتقديم استئناف جديد. بدا هنا أنّ صفقة نضجت وحان قطافها.
الصفقة المخزية
وصف مايك بنس نائب الرئيس الأميركي في عهد دونالد ترامب الصفقة بالمخزية. قال إنّه كان على الولايات المتحدة أن تحاكم من تآمر على الأمن القومي لبلاده. لكنّ ذلك لم يحصل. أسقطت “الصفقة” 17 تهمة عن أسانج كان من شأنها أن تُنزل به عقوبة تصل إلى 175 عاماً وأبقت على تهمة واحدة عليه الاعتراف بها حتى يصبح رجلاً حرّاً. غادر أسانج بريطانيا الثلاثاء ليعترف صباح الأربعاء أمام محكمة في جزيرة سايبان الأميركية، إحدى جزر ماريانا الشمالية، وهي منطقة تابعة للولايات المتحدة، بتهمة التآمر للحصول على معلومات تتعلّق بالدفاع الوطني ونشرها.
يقوم حكم إطلاق سراح أسانج على عقوبة صدف أنّها معادلة للخمس سنوات والشهرين التي قضاها في سجن بلمارش الذي لطالما لُقّب بـ “غوانتانامو بريطانيا”. بات الرجل طليقاً فعاد إلى بلاده أستراليا التي صادف أيضاً أنّها لا تبعد عن الجزيرة الأميركية ومقرّ محكمتها.
بات معروفاً في الساعات الأخيرة أنّ بريطانيا أبدت ضيقاً من قضية تقادمت وتآكلت وانتهت مفاعيلها فضغطت على واشنطن من أجل مخرج ما. لم تكن أستراليا القريبة من لندن وواشنطن وتجمعها معهما اتفاقية AUKUS الأمنيّة بعيدة عن مسارات تلك الضغوط. كان رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز قد دعا منذ تولّيه منصبه في عام 2022 إلى إنهاء قضية أسانج وأثار الأمر مباشرة مع الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارة دولة للولايات المتحدة قام بها في تشرين الأول الماضي. قبل ذلك، في أيلول، كان وفد من النواب الأستراليين من مختلف الأحزاب قد زار واشنطن للضغط على المشرّعين الأميركيين من أجل إطلاق سراح أسانج.
أثارت قضية أسانج منذ إطلاقه عام 2006 موقع “ويكيليكس” أسئلة بشأن حرّية القول والتعبير والصحافة في الولايات المتحدة. فالرجل صحافي وناشر أسترالي ولم يثبت أنّ ما سرّبه من وثائق كان لمصلحة أجندات دول أخرى. فتح الحدث نقاشاً داخل أروقة العواصم الغربية بشأن المسموح والمحرّم في منظومة الحرّيات التي تكفلها الدساتير. صحيح أنّ الموقع أماط اللثام عمّا هو من أسرار الدولة وكشف عن وثائق وبرقيات ومحاضر فضحت علاقة واشنطن مع العالم، غير أنّ الأمر سلّط مجهراً على ضرورات تلك السرّية في عالم وجب أن يكون شفّافاً في عصر العولمة الشاملة وثورة المعلومات فيه. أثار الأمر أيضاً نقاشاً بشأن لزوميّة الديمقراطية في منطق ما زال يقدّس كتم الأسرار ووأد الحقائق.
لكن بغضّ النظر عن حيثيات القضية وذيولها وملحقاتها القانونية، فإنّ نشر الوثائق وكشف مضامينها فتح أعين العالم على الطريقة التي يُدار بها هذا العالم وبساطة صنّاع القرار وتفاهة ما يجترحونه من مواقف وأفكار في اجتماعات تقرّر مسارات ومصائر. والأرجح أنّ “ويكيليكس” وصاحبه أفرطا في إقناعنا بأنّ هذا العالم هو لعبة وميدان لعب ومن يقرّر كوارثه هم لاعبون وحسب.