وحدة الرصد السوشيالى ووحدة الشئون الإسرائيلية
لم تكن جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية دون هدف. ولم تكن جرائم انتقامية فقط من أحداث 7 أكتوبر. إنّها جرائم تحمل مشروعاً سياسياً. ويقضي المشروع بتهجير أهل غزة أو أكثريّتهم الساحقة إلى سيناء عبر بوّابة رفح. أقفلت مصر البوّابة وعضّت على جرح الألم. وتجاوب الغزّيون في تحمّل نتائج البوّابة المغلقة وهم يعرفون جيداً كمهجّرين سابقين معنى التهجير الجديد.
فماذا بعد فشل المشروع الإسرائيلي في تهجير أهل غزة إلى مصر (سيناء)؟
لا تهجّر إسرائيل الفلسطينيين بالقوّة المسلّحة لمجرّد التهجير. فالتهجير عندها هو جزء من برنامج سياسي أشمل وأوسع. ويتمثّل في تحويل تجمّعات اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية التي يُهجَّرون إليها إلى قنابل أمنيّة وسياسية موقوتة. هكذا حدث في الأردن (أيلول الأسود 1970)، وهكذا حدث في لبنان (تلّ الزعتر وصبرا وشاتيلا بين 1976 و 1982)، وهكذا حدث في سورية (اليرموك 1990).
نقل المقاومون الفلسطينيون سلاحهم من عمّان إلى بيروت، فدمّر الإسرائيليون مخيّم صبرا وشاتيلا فوق رؤوس أهله، وحوّلوا المخيّم إلى مسلخ بشري بقيادة الجنرال أرييل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي نفسه. وتمكّنت المخابرات المتداخلة (دولياً وعربياً) من تحويل مخيّم عين الحلوة إلى بؤرة للصراع الفلسطيني – اللبناني، ثمّ الفلسطيني – الفلسطيني حتى أُنهكت كلّ الأطراف.
ليس تهجير الفلسطينيين سياسة مقصودة للتخلّص منهم فقط. فللتهجير هدف آخر، وهو تحويل مخيّمات التهجير إلى قنابل موقوتة في المجتمعات العربية المتاخمة لإسرائيل.
استطاعت مصر أن تبقى بمنأى عن تداعيات هذه السياسة التخريبية والاستنزافية للطاقات البشرية والمعنوية العربية. وحاولت إسرائيل اختراق هذه السياسة المصرية من خلال تهجير أهالي غزة.
ولذلك مارست القوات الإسرائيلية كلّ أنواع الجرائم ضدّ الإنسانية ليس للانتقام فقط، إنّما للتهجير في الدرجة الأولى. ولكن لا الغزّيون استجابوا للضغوط (منع الماء والغذاء والدواء مع القتل والتدمير العشوائي)، ولا مصر استجابت للعواطف الإنسانية والقومية على حساب البعد الاستراتيجي للمصالح الفلسطينية والمصرية معاً.
لماذا فشل مشروع التهجير؟
لعب عاملان دوراً أساسياً في فشل الحرب الهمجية الإسرائيلية على غزة:
– العامل الأوّل فلسطيني – غزّي. ويتمثّل في التمسّك بأرض الوطن الفلسطيني على الرغم من كلّ عذابات القتل والتدمير، وعلى الرغم من إجراءات التجويع والتعطيش التي مارستها، ولم تزل تمارسها، القوات الإسرائيلية بقرار سياسي.
– أمّا العامل الثاني فهو عامل الصبر المصري على مقاومة محاولات تهجير أهل غزة إلى سيناء. فمصر تدرك أنّ الاستجابة “الإنسانية” للتهجير كانت تعني تقديم غزة على طبق من فضة لإسرائيل، ثمّ تحويل سيناء إلى منطقة استيطانية جديدة على غرار مخيّمات لبنان والأردن وسوريا، وتحويل هذا المخيّم الجديد إلى قنبلة موقوتة في خاصرة الوحدة الوطنية المصرية.. والأمن المصري.
تعتبر إسرائيل أنّ تهجير الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية التي تحتلّها، هو تهجير للقضية الفلسطينية، بمعنى تحويل الصراع من فلسطيني – إسرائيلي إلى صراع فلسطيني – لبناني، وفلسطيني – أردني، وفلسطيني – سوري، والآن فلسطيني – مصري. وبالتالي تحويل القضية الفلسطينية من قضية حقّ فلسطيني وطني تغتصبه إسرائيل، إلى صراع استنزافي للإمكانات المعنوية والمادّية العربية بما فيها الفلسطينية.
صمود مصر أمام الضغوط
كانت إسرائيل تراهن على أنّ إصرار مصر على موقفها بإقفال معبر رفح في وجه الهجرة القسرية الفلسطينية من غزة إلى سيناء، سوف يجعلها تتعرّض لانتقادات وضغوط داخلية وعربية وخارجية تحملها على التراجع بفتح المعبر لأسباب إنسانية. لكنّ مصر عضّت على الجرح وآثرت المصلحة القومية العليا للفلسطينيين ولمصر، وأصرّت على إقفال المعبر تفشيلاً لمخطّط نتنياهو التهجيري.
أدّى هذا الموقف إلى ليّ الذراع الإسرائيلية سياسياً وعسكرياً، ثمّ إلى فتح نافذة أمام مبادرة دولية جديدة أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن تقوم على مبدأ حلّ الدولتين، بحيث تكون غزة جزءاً لا يتجزّأ من الدولة الفلسطينية العتيدة.
يجسّد هذا التطوّر فشل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ببعْدها الإلغائي للشعب الفلسطيني من جهة، وببعْدها التآمري على الأمن المصري من جهة ثانية. وبدلاً من ذلك تحوّل قطاع غزة إلى بوّابة لإخراج نتنياهو من السلطة مذموماً مدحوراً، كما تحوّل إلى المدخل الرئيس للعبور إلى الدولة الفلسطينية العتيدة.