مثلت حرب السادس من أكتوبر عام 1973م نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط، على المستوى الإقليمي، وكذلك على المستوى الوطني في دول المنطقة، كما كان لهذه الحرب المجيدة تأثيراتها العميقة فيما يخص ماهية وآليات تعامل القوى الدولية الكبرى مع التطورات الحاصلة في الإقليم، وذلك على نحو أنتج تغيرًا جذريًا وصفته إسرائيل نفسها بأنه “زلزال جيواستراتيجي”.
وعلى ضوء التطورات بالغة الخطورة التي تشهدها المنطقة في العام الأخير، وتزامناً مع الذكرى 51 لحرب أكتوبر، بات إسرائيل الرسمية تجاهر بخطاب سياسي وعسكري علني تؤكد فيه، بلا أية مواربة، أنها تعمل على تغيير الشرق الأوسط في اللحظة الراهنة.
وإذا كانت “البجاحة” سمة لازمة لإسرائيل، قولًا وسلوكًا، فإن حديثها عن تغيير الشرق الأوسط الآن، يفتح المجال لطرح تساؤلات عربية واجبة حول: الأسباب التي تُقوى ظهر إسرائيل على نحو يجعلها تتحدث بهذا الخطاب السافر غير المسبوق، وماهية التغيير الذي تحاول فرضه في المنطقة، وآلياته، والفوارق بينه وبين التغيير الذي أحدثته حرب أكتوبر73، والرؤى والأطروحات الأخرى- إن وجدت- المضادة أو على الأقل المنافسة للطرح الإسرائيلي في هذا الشأن، واحتمالات كل منها في التحقق، ولمن سيكون “القول الفصل” في رسم وإنفاذ التغيير القادم في الشرق الأوسط.
ماذا فعلت حرب أكتوبر بالشرق الأوسط؟
دون الخوض في تفاصيل التغيرات التي أحدثتها حرب أكتوبر في المنطقة، يكفي أن نشير أنها غيرت معادلات التوازن العسكري بين الدول العربية وإسرائيل في غير صالح الأخيرة، وحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأثبتت فاعلية الأدوات الاستراتيجية العربية غير العسكرية (سلاح النفط تحديداً) في التأثير بميدان السياسة الدولية، على نحو قاد بدوره إلى تغيير مواقف القوى الدولية الكبرى وسياساتها تجاه المنطقة ودولها.
وهكذا، أصبح الشرق الأوسط ما بعد السادس من أكتوبر 73 مغايراً تماماً، من المنظور الاستراتيجي والعسكري، لما كان قبل هذا التاريخ الحاسم، الذي أعاد تصحيح الأوضاع التي سادت لمدة 6 سنوات منذ الخامس من يونيو 67، وأرسى دعائم ردع جديدة كفلت الأمن والسلام للمنطقة لعقود.
هل تنجح إسرائيل في تغيير الشرق الأوسط “على مقاسها”؟
دأبت تل أبيب منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م، على الترويج لرؤيتها بخصوص شرق أوسط “على مقاسها” بحيث يتم قبولها دبلوماسياً وشعبياً في المنطقة، وظلت تحاول على مدى العقود السابقة في تحقيق هذا الغرض.
فكان طرح وزير خارجيتها الأسبق ومهندس برنامجها النووي شيمون بيريز، بشأن “الشرق الأوسط الجديد” من خلال التركيز على التعاون الاقتصادي والسياحي بين دول المنطقة، ولكن هذا الطرح لم يلق رواجًا على النحو المأمول.
ومن ثم، طُرح مشروع “الشرق الأوسط الكبير”، بدعم أميركي معلن هذه المرة، ولكنه لم يجد صدى من دول المنطقة.
وعقب الانتفاضات العربية في مطلع العقد الثاني من القرن الـ21، تمت إعادة مشروع الشرق الاوسط الجديد الكبير بمصطلح جديد عبر “صفقة القرن” التي تبناها ودعمها دونالد ترامب خلال فترة رئاسته (2016-2020م).
وتتثل القواسم المشتركة في هذه المحاولات الإسرائيلية لتغيير المنطقة، في أنها اعتمدت بالأساس على “القوة الناعمة” عبر الدبلوماسية والمفاوضات والترويج السياسي، كما أنها جاءت بتنسيق تام ومسبق مع واشنطن ودعم كامل منها بشكل مباشر أو غير مباشر، فضلاً عن أنها تدثرت بطابع “التعاون الجماعي” والتشدق – على الإطلاق علنًا- بأن الجميع سيكون فائزاً.
ولكن في 2024م، جاء الطرح الاسرائيلي مختلف كل الاختلاف عن المحاولات السابقة، فقد عمد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزرائه إلى التأكيد على أن اسرائيل- ليست راغبة فحسب- ماضية في تغيير الشرق الأوسط بالقوة، مهددين بأنه لا يوجد مكان في المنطقة لا تستطيع ذراع اسرائيل الطويلة الوصول إليه في أي زمان.
ويعني ذلك فرض التغيير باستخدام الألة العسكرية في تغيير الخريطة الجغرافية والديمغرافية في المنطقة، وهو ما يعني ليس فقط تجاهل مصالح بقية الدول، بل والافتئات على حقوقها وخرق سيادتها والانتقاص من استقلالها وتهديد سلامة ووحدة أراضيها.
والأخطر من ذلك، أن نتنياهو قام بترجمة طرحه المتطرف على شكل خرائط رسمية، عرضها في العديد من المناسبات المعلنة خلال الأسابيع الأخيرة، وكان أخرها خلال كلمته أمام جلسات الدورة الـ 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في سبتمبر 2024م، حين عرض ما وصفهما بـ”خريطة النعمة” و”خريطة النقمة”، عاقدُا مقارنة بين شرق أوسك تقوده إسرائيل واخر تهيمن عليه دول مثل إيران.
كما أن هذا التغيير الذي يعمل على إحداثه نتنياهو وحكومته المتطرفة في الشرق الأوسط، بات يتم بشكل منفرد تماماً وبعيد بصورة متعمدة عن أدنى تنسيق أو مشورة مع الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي الأهم لتل أبيب.
“شرق أوسط ما بعد 2024”
على الأرجح، لن تنجح إسرائيل- كما في السابق- في فرض تغيير بالقوة العسكرية الغاشمة وفق مخططاتها التوراتية المزعومة بشأن (إسرائيل الكبرى).
ومرد ذلك في تقديرنا المتواضع، يعود إلى أن الطرح والنهج الإسرائيليين الحاليين ينطويان، كما في كل مرة، على عوامل فشلهما:
فمن جهة أولى، لن يستمر الانتصار الجزئي الراهن الذي حققته إسرائيل على بعض خصومها، كما أنه – لو افترضنا استمراريته- يظل تفوقاً تكتيكياً على جماعات شبه عسكرية، فيما تظل الدول المنافسة لإسرائيل في الإقليم، باقية وقوية.
ومن جهة ثانية، لن يستمر موقف واشنطن الراهن العاجز عن ممارسة اية ضغوط على تل أبيب؛ بسبب اقتراب الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر المقبل، إذ أن فترة العجز الأميركي المؤقت هذه لن تطول لأكثر من 5 أشهر من الآن، وذلك حتى تسلم الرئيس الجديد مهامه الرسمية في يناير 2025م ثم انقضاء “فترة شهر العسل” الرئاسية بمرور 3 أشهر كحد أقصى من تاريخ دخول البيت الأبيض.
ومن جهة ثالثة، وهو الأهم، فإن هناك رؤى إقليمية لتغيير الشرق الأوسط، تتعارض كل الاعتراض مع الطرح الإسرائيلي، بل وهناك تحركات على الأرض من قبل أطراف دول وازنة في المنطقة ( مصر، والسعودية، وإيران، وتركيا) من أجل التصدي لمخططات تل أبيب، وطرح البدائل الواقعية والعقلانية على طاولة النقاش والتفاوض الإقليمي والدولي.
وإجمالاً، لن تكون إسرائيل قادرة بمفردها- حتى وإن أردات- أن تُحدث التغيير الذي تريده المنطقة؛ لاعتبارات ومحددات متنوعة، لا يتسع المقام هنا للتفصيل فيها. وهذا الاستنتاج هو نفسه ما أكد عليه رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق إيهود بارك في مقابلة مع شبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأميركية في الثاني من أكتوبر الجاري.
إذن، مراد القول إن: التطورات التي يشهدها الشرق الأوسط على ضوء الحرب الإسرائيلية الغاشمة على كل من قطاع غزة، ولبنان، تجعل التغيير في المنطقة مسألة وقت فقط، وأن القوى الإقليمية الفاعلة جميعها لديها “الرغبة” في التغيير كلُ حسب مصالحه العليا وطموحاته الاستراتيجية. لكن سيكون الحسم في ماهية “القدرة” المتوافرة لكل طرف على بلوغ الحصة الأكبر مما يرغب ويريد.
وبين توافر الرغبات وتباين القدرات، ستظل الصورة النهائية للشرق الأوسط مابعد 2024 رهناً بموازين القوة الشاملة لدول المنطقة أكثر منها ارتباطاً بتوجهات القوى الخارجية التي تبقى، رغم أهميتها، عاملاً محفزاً ومكملاً.