خالد البواب وغرفة التغطية الحية
رصدنا رأيا ملفتا حول التنافسية المنوعة على قيادة المنطقة العربية، بمختلف الأدوات والأسلحة، ما بين قيادات تاريخية وقيادات مستجدة، الأبرز خلال الفترة الأخيرة السعودية والإمارات بشكل أثر حتى على مستوى علاقتهما الثنائية.
تغرق منطقتنا هذه الأيام بين نقيضين في السياسة:
– عقلانية واقعية هادئة، بخلفية ماكيافيلية، تسعى لتحقيق أحلام وطموحات على قاعدة المصالح ضمن قراءة الواقع وفي سبيل تحسين سبل عيش الشعوب في المنطقة.
– وأيديولوجيا تخلط الشعبوي بالعاطفي بالغيبي، بغطاء عسكري يدّعي “الثورية”، وبنواةٍ صلبة من رغبة إمبراطورية جامحة بالتوسّع لعى حساب الشعوب والدماء.
وليس خافياً أنّ الدول “العاقلة” هي دول الاعتدال العربي.
أظهرت الرؤية الاستراتيجية لدول الخليج بعدَ نظرٍ سعى إلى أن يتلافى تمدّد هذه الثورات التي كانت محقّة بطبيعة الحال، لكن تمّ تحويلها في حسابات المؤدلجين وحسابات الدول ومصالحها إلى مشاريع تغيير خرائط وديمغرافيات وإلى ثورات إخوانية – إسلامية
الهدف من وراء هذا المدخل في الكلام، هو العودة البسيطة إلى تقويم المنطقة العربية بين سياستين. سياسة دول الاعتدال التي تسعى دوماً إلى الحفاظ على الدول وتكريس الاستقرار. وسياسة التنظيمات الأيديولوجية التي تركّز على الثورات والانتفاضات وقلب الأنظمة، لكنّها غالباً من تؤول نتائجها إلى صراعات دينية أو مذهبية عسكرية ومسلّحة تؤدّي إلى تدمير وتهجير.
السعودية والإمارات
مناسبة الكلام هي محاولة للإضاءة على رؤيتين في هذه المنطقة:
– الرؤية السعودية.
– والرؤية الإماراتية.
يتركّز مضمون الرؤيتين من خلال بناء الدولة الوطنية والحفاظ عليها وعلى بنيتها التحتية. وإن كان ذلك يتعارض مع طموحات وحماسة أجزاء من الشعوب في هذه اللحظة العاطفية. والمقصود هنا هو ابتداءً مما جرى في الربيع العربي وثوراته، وتداعياته، وليس انتهاءً بيوم 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023).
فقد أظهرت الرؤية الاستراتيجية لدول الخليج بعدَ نظرٍ سعى إلى أن يتلافى تمدّد هذه الثورات التي كانت محقّة بطبيعة الحال، لكن تمّ تحويلها في حسابات المؤدلجين وحسابات الدول ومصالحها إلى مشاريع تغيير خرائط وديمغرافيات وإلى ثورات إخوانية – إسلامية دخل الكثيرون على خطوط دمائها ومشاريعها.
صحيح أنّ الموقف الذي كان على نقيض حماسة الشعوب التوّاقة إلى الثورة، لاقى اعتراضاً لدى الكثيرين، لكن مع مرور الأيام تتثبّت صوابية الرأي الذي ذهب باتجاه عقلانية إلى أقصى الحدود في الحفاظ على الدولة الوطنية والمؤسّسات، أمام نتائج التدمير والتهجير والتجزير التي شهدتها دول كثيرة، لا سيما أنّ الثورات قد فشلت أو أُفشلت.
وهو ما أدّى إلى ندوب كثيرة في أجسام الدول وبناها. ولطالما نتج عن الأيديولوجيات صراعات مديدة تقوم على الدوران في دوّامة أو حلقة مفرغة ومفرطة في العنف والتدمير. فيما سلكت السعودية والإمارات مسلكاً آخر.
في التمييز بين المسارين، يشكّل الوضع في غزة أبرز الاختبارات، بين استمرار الصراع العسكري الذي يسهم في تهجير المزيد من سكان القطاع، بالإضافة إلى استمرار المجازر، بدون إيجاد أية رؤية سياسية لما بعد الغد. في مقابل طرف يسعى إلى وقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية والانتقال إلى مرحلة من التفاوض السياسي. والمشكلة الأساسية لدى “الأيديولوجيين” أنّهم يخوضون المعارك في سبيل التفاوض بعدها والذهاب إلى تسويات أو اتفاقات سياسية غالباً ما يكون ثمنها كبيراً جداً. بينما قوى الاعتدال تفضّل الذهاب إلى التفاوض على قاعدة تحسين الشروط والظروف استباقاً لأيّ مشروع تدمير أو تهجير.
على وقع الانقسام بين المسارين، يسعى كلّ طرف إلى تكريس دوره على طاولة المفاوضات في سبيل صناعة مستقبل المنطقة أو رسم خرائطها. مع تسجيل فارق أساسي أنّ القوى المؤدلجة تمارس العنف وتستثمر به في سبيل استدراج حضورها على تلك الطاولة، بخلاف القوى الأخرى كمصر والسعودية والإمارات التي ستكون موجودة وقائمة بحكم الواقع الطبيعي في أيّ مفاوضات حول المستقبل.
السعودية أمام فرصة أساسية تتّصل بكيفية قيادة العالم العربي، وبصناعة مشروع سياسي يربط كلّ الدول المحيطة بالمملكة، بدءاً من العمل في سبيل حلّ القضية الفلسطينية
خيمة ملكيّة تختصر الحكاية
في خيمة ملكية، استقبل الأمير محمد بن سلمان وفوداً دولية عديدة، بينها شخصيات أميركية كانت تكنّ العداء والخصومة للمملكة. زار هؤلاء الأراضي السعودية، ومكثوا تحت سقف خيمة، لها الكثير من الرمزيّات الدامجة ما بين الأصالة التقليدية، والمستقبل الزاهر، فتجتمع فيها الروابط التاريخية مع قيم الحداثة التي تنحو باتجاهها كلّ دول الخليج، من مونديال قطر، إلى إكسبو 2020 في دبي، وقمّة الـ cop 28، إلى إكسبو الرياض 2023، ومونديال ،،2030 في السعودية ، وليس انتهاءً بمشروع “نيوم” الذي سيعيد تعريف منطقة الخليج لعقود آتية.
هذه رؤية لإضفاء أطر فكرية وثقافية تمزج ما بين الماضي والحاضر بالعمل الدبلوماسي في سبيل تكريس مفهوم الدبلوماسية المستدامة الساعية إلى خلق شراكات استراتيجية وفقاً لأطر مؤسّساتية للحفاظ على مكتسبات الأمن والسلم والازدهار.
بالانطلاق من هذا المفهوم الدبلوماسي الذي تشكّل فيه السعودية ودول الخليج قبلة سياسية واقتصادية واستثمارية، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ أيّ حلّ يتّصل بالوضع في المنطقة لا بدّ له أن يحصل بناءً على الشراكة مع دول الخليج وأولها السعودية، التي تشكّل اليوم القوة العربية الأبرز لناحية الاستقرار، الازدهار والقدرات الاقتصادية والاستثمارية، بالإضافة إلى القوة السياسية المرتكزة على علاقات واسعة ومؤثّرة. في هذا المجال يتواصل البحث عن تسويات للوضع في المنطقة انطلاقاً من مرحلة ما بعد الحرب على قطاع غزة، وما بعد اجتماع الخيمة بين بن سلمان وأنتوني بلينكن.
أرباح الخليج… اليوم وغداً
في هذا المسار، فإنّ الربح سيكون في مصلحة هذه القوى، والربح مجالان: الأوّل قصير الأمد والثاني طويل المدى.
– في البعد الأول، يظهر التحسّن في العلاقات السعودية الأميركية. وقبل وصول وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن إلى الرياض تمّ ضخّ كمّيات كبيرة من النفط في السوق، وهو ما دفع السعر إلى الانخفاض ثلاثة دولارات. كما أنّ ألمانيا أعلنت عن الاستعداد لبيع السعودية طائرات يوروفايتر. وربح السعوديون انعدام التهديد الحوثي لاستقرار المملكة على الرغم من مشاركتها في اعتراض الصواريخ اليمنية، وانعدم التهديد الحوثي للقواعد الأميركية على الأراضي السعودية، وتحسّنت العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية ومع أوروبا، ولا سيما مع فرنسا وألمانيا، واستمرّ اعتماد سياسة التوازن والربط بين الشرق والغرب انطلاقاً من العلاقة الجيّدة مع روسيا والصين.
– أمّا على المدى الأبعد، ففي النهاية لا يمكن إبرام أية تسوية أو اتفاق بدون تسوية، وهناك رؤية واضحة لدى الأميركيين وغيرهم من الدول، بأنّه لا يمكن حلّ مشكلات المشرق العربي، أي لبنان، سوريا، وفلسطين، بالإضافة إلى العراق، بدون عودة السعودية بقوّة إلى هذه الدول، وبدون أن تكون هذه الدول على خارطة المشروع السعودي المستقبلي واستثماراته.
بالارتكاز على هذا المشروع فإنّ السعودية أمام فرصة أساسية تتّصل بكيفية قيادة العالم العربي، وبصناعة مشروع سياسي يربط كلّ الدول المحيطة بالمملكة، بدءاً من العمل في سبيل حلّ القضية الفلسطينية. وهذا يحتاج إلى وقت، ويرتبط بالدبلوماسية الهادئة التي تقودها السعودية منذ ما بعد القمّة العربية والإسلامية والجولات التي حصلت، تحضيراً لمصالحة وطنية فلسطينية وإعادة تشكيل السلطة والذهاب إلى ما يشبه “طائف فلسطيني”.
وربّما هذه المرّة يكون “اتفاق العلا الفلسطيني”، الذي لا بدّ له أن يكون مرتبطاً بحلّ الدولتين. وهذا سيكون نتاج تنسيق وتحضير بين دول عديدة، لا سيما قطر، الإمارات ومصر، ويصبّ في النهاية لدى السعودية، وهذا هو المسار القائم اليوم.