بعد تعرّضه لانتقادات شديدة، داخلية وخارجية، لعدم طرحه أفقا سياسيا لمرحلة ما بعد الحرب، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، نهاية الأسبوع المنصرم، بوثيقة قصيرة مدوّنة في صفحة ونصف الصفحة، تحمل عنوان «مرحلة ما بعد حماس»، وتشمل تجميعا لما صرح به سابقا من مواقف بشأن الحرب ومستقبل قطاع غزة. الوثيقة معدة للنقاش في المجلس الوزاري للشؤون الأمنية.
ولكنّها نشرت قبل بحثها، ما يشير إلى أن هدفها، هو من جهة، امتصاص المطالب الأمريكية والدولية بأن تطرح إسرائيل رؤيتها بشأن اليوم التالي، ومن جهة أخرى الجهر المقصود باستهتار نتنياهو بشركائه غانتس وآيزنكوت، أملا بدفعهما خارج الحكومة والتخلص منهما كجزء من استراتيجيات المنافسة الحزبية والشخصية.
وعلى الرغم من غاياتها الدعائية والنفعية البيّنة، فإنه لا يجوز الاستهتار بهذه الوثيقة، لأنّها تحوي مواقف رأس الهرم السياسي في إسرائيل، وتعكس إلى حد كبير مواقف النخب السياسية والأمنية المتنفّذة في نظام الدولة الصهيونية. لا تصح الاستراحة بالقول بأن خطة نتنياهو فاشلة وخائبة، فهي لن تخفق هكذا من تلقاء ذاتها، هي قابلة للفشل فعلا إذا لقيت من يتصدى لها، وهذا بحاجة إلى إرادة جمعية فلسطينية وعربية.
الوحدة الوطنية الفلسطينية
خطة نتنياهو ستتحطم إذا ارتطمت بصخرة الوحدة الوطنية الفلسطينية وبالحد الأدنى من الالتزام العربي تجاه قضية وشعب فلسطين، ولا يجوز الاكتفاء برفض أهداف الخطة والقول بأنها خط أحمر، بل من الواجب التصدي لما تقوم به إسرائيل لتحقيق مآربها وغاياتها. الوسيلة هنا لا تقل فظاعة عن الهدف، فهي إبادة جماعية ودمار شامل، هي مجازر وتهجير، وهي محاولة إجرامية محمومة ومتواصلة لسحق شعب فلسطين وقضيته.
يبدو أنه يجب تذكير الدولة الصهيونية، أن شعب فلسطين عصي على الكسر، حتى لو خذلته قياداته ولم ترتفع إلى مستوى المسؤولية التاريخية المطلوب واللازم هذه الأيام. فهو سيجبر هذه القيادات أن تغيّر ما هي عليه، أو أن يغيّرها هو، فالقضية أضحت قضية «نكون أو لا نكون»، لا أقل.
ماذا في خطة نتنياهو
قسّم نتنياهو خطته إلى ثلاث مراحل: المدى القريب والمتوسط والبعيد، لكنها لا تعبر عن تطور خطي متعاقب، بل عن توسيع متتابع للمبدأ نفسه وهو تعميق الاحتلال وضمان دوامه إلى أجل غير مسمى. ويكمن مضمون الوثيقة في عنوانها «يوم ما بعد حماس»، وذلك بافتراض أن اليوم التالي للحرب يأتي بعد القضاء على حماس. وعليه يأتي البند الأول على «المرحلة الفورية»، ويحدد أن «الشرط اللازم للوصول إلى اليوم التالي»، هو أن «يواصل الجيش الإسرائيلي الحرب حتى تحقيق أهدافها: تدمير القدرات العسكرية والسلطوية لحماس، وإعادة المخطوفين، ومنع تهديد من غزة».
بعد ذلك تذهب الوثيقة إلى المرحلة المتوسطة في تسع نقاط: أولا: حرية العمل العسكري في كل قطاع غزة بلا سقف زمني، ثانيا: يبقى الشريط الحدودي داخل غزة قائما طالما هناك حاجة أمنية له، ثالثا: «تقيم إسرائيل «حاجز عزل جنوبي» بين غزة ومصر.. يفعّل قدر المتاح بالتعاون مع مصر وبالتعاون مع الولايات المتحدة».
رابعا: تسيطر إسرائيل أمنيا على كل المنطقة الواقعة غربي نهر الأردن، بما فيها قطاع غزة (برا وبحرا وجوا والطيف الكهرومغناطيسي)، خامسا: تكون غزة منطقة منزوعة السلاح، سادسا: مدنيا، تجري إدارة غزة من أطراف محلية لها خبرة إدارية وليس لها علاقة بالفصائل الفلسطينية، سابعا: يتم تنفيذ خطة لمكافحة التطرف في المؤسسات الدينية والتعليمية والخدماتية كافة في غزة، ثامنا: تسعى إسرائيل إلى إغلاق الأونروا وإلى «استبدالها بوكالات إغاثة دولية مسؤولة»، تاسعا: إعادة إعمار غزة تبدأ فقط بعد إتمام نزع السلاح والشروع في عملية «مكافحة التطرّف»، وتقوم بالإعمار دول مقبولة عند إسرائيل
أمّا المرحلة بعيدة المدى، فقد حملت عنوانا فرعيا هو «القواعد الأساسية للتسوية المستقبلية»، وتضمنت بندين بصيغة النفي: الأول: ترفض إسرائيل الإملاءات الدولية بخصوص التسوية مع الفلسطينيين، والثاني: ترفض إسرائيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف واحد.
كيف نقرأ الخطة
في تعقيب ساخر لها على الخطة، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» بأنّها لا تشرح كيف سيتجنّد الفلسطينيون لتكريس الاحتلال الإسرائيلي؟ وهذا سؤال وجيه لأن الخطة ليست معدّة فقط، لتعميق الاحتلال وإطالته إلى أجل غير مسمى، بل تطلب فيها إسرائيل من الدول العربية ومن أبناء الشعب الفلسطيني، أن يسهلوا عليها الهيمنة والسيطرة. سيكون من الصعب، بل من المستحيل أن تنفذ إسرائيل خطتها كاملة.
لكن كل بند من بنودها هو مصيبة بحد ذاته، وحتى لو كتب الفشل لكل بنود الخطة، فهي تبقى في غاية الخطورة، لأن الدولة الصهيونية تسعى لتحقيق غاياتها بارتكاب الجرائم والمزيد من الجرائم كلّما أخفقت في الوصول إلى مآربها. ولو نظرنا إلى خطة نتنياهو، لوجدناها مزروعة بالألغام والقنابل الموقوتة في كل بنودها. واللغم الأكبر والأخطر هو إعلان الالتزام بمواصلة الحرب حتى «تدمير حماس»، وهذه وصفة لإدامة القتال لأشهر ولسنوات. وإذا ظن البعض أن مصير المحتجزين الإسرائيليين قد يردع جيش الاحتلال، فإن الخطة تشير فقط إلى إعادتهم، من دون إضافة كلمة «أحياء».
ولمواصلة الحرب لمدة أطول فأطول، تستطيع إسرائيل التلويح دائما بأن عملية «نزع السلاح» عن غزة لم تكتمل، وقد تستعمل الادعاء نفسه لمنع البدء في عملية إعادة الإعمار. هذه العملية تبدو مستحيلة في ظل السياسات والممارسات الإسرائيلية، إذ يشترط كل من هو مرشّح لتمويلها وإدارتها بأن تكون ضمن خطة حل سياسي تضمن أن يجري هدم ما تمت إعادة إعماره، كما حدث سابقا، مرارا وتكرارا. ما تصبو إليه الدولة الصهيونية في هذه المرحلة هو تهيئة الظروف لما يسمّى «التهجير الطوعي».
وقد روّج له قبل عشرين عاما، عضو الكنيست اليميني المتطرّف بيني إيلون، الذي دأب على القول بأن الترانسفير أكثر إنسانية وأرحم من القتل. وتكرر قيادات إسرائيلية وازنة الدعوة للتهجير بوصفه عونا إنسانيا للفلسطينيين لتخليصهم من عذاباتهم في غزة، لقد تم التهجير فعلا داخل غزة، والتهجير إلى خارج القطاع هو الآن مشروع إسرائيلي ينتظر الفرصة المواتية.
ما العمل؟
لا مبالغة في القول إن مصير شعب وقضية فلسطين على المحك هذه الأيام. والكوارث المحتملة لا تقل فظاعة عما جرى ويجري. الحسابات السياسية القديمة فقدت معناها وقيمتها، بغض النظر عن مدى صوابها وأحقيتها. السؤال الأهم والمصيري هو كيف يواجه الشعب وتواجه القيادة هذه الكوارث، وكيف يمكن الخروج من هذا النفق المظلم؟ المطلوب فورا مشروع فلسطيني لحماية شعب فلسطين من المزيد من المصائب، وهو يبدأ بالوحدة الوطنية اللازمة لمواجهة التحديات المذهلة القائمة والمقبلة.
كيف يمكن أن يكون للدولة الصهيونية مشروع (إجرامي) لحاضر ومستقبل غزة، ويغيب عنها المشروع الفلسطيني المتفق عليه. إنّ أخطر ما نسمعه هذه الأيام هو نغمة قلة الحيلة، فهي لا تعكس واقعا، بل موقفا لتسويغ خيار العجز.
يمكن لحركة التحرر الوطني الفلسطيني بفصائلها المختلفة أن تطرح للشعب الفلسطيني أولا، ولبقية العالم مشروعا يمثل الحق الفلسطيني ويحمل سطوة عدالة قضية فلسطين. وحين يتفق الفلسطينيون على قيادة موحّدة تطرح مشروعها، لا يستطيع العالم تجاوزها، ولا حتى الدول العربية.
وعند التوصل إلى توافق سياسي، يسهل تشكيل حكومة تكنوقراط وهيئات إعمار ناجعة، ويمكن تحريك تفاعل عربي ودولي يفضي إلى وقف الحرب والشروع بتضميد الجروح. البديل هو عمليا، فتح باب «التهجير الطوعي».