لكل مهنة قوانينها وقواعدها، التي تطبقها في مجالاتها التخصصية، فمثلاً في علوم الطب، تسري قاعدة إزالة الصديد فور ظهوره، وتفضيل استئصال الأورام، وفقاً لطبيعتها، أما في العلوم العسكرية، فرغم وحدة الهدف، إلا أن القوانين والمبادئ قد تتباين من بلد لآخر، كما تختلف المسميات، فتطلق بريطانيا على عمليات القتال مصطلح “Land Operation”، وتسميها الولايات المتحدة “Field Manual”، أما مصر، التي تتبع العقيدة الشرقية، المعمول بها في روسيا، فتطلق عليها “قانون القتال”، وهو ما ندرسه في كلياتنا العسكرية. ورغم تباين العقائد العسكرية ما بين غربية وشرقية، إلا أننا نعرف جميعاً قواعد الاشتباك، سواء في الحروب التقليدية، التي سُميت بذلك الاسم لاعتمادها على المعدات الحربية التقليدية، كالدبابة والمدفع والصاروخ، أو في الحرب النووية، التي يدل اسمها على نوع السلاح المستخدم بها.
وبينما تعتمد جميع جيوش العالم على الأسلحة التقليدية، نجد تسع دول، في العالم، تمتلك أسلحة نووية، يطلق عليها اسم “النادي النووي”، وهم أمريكا وروسيا والصين وإنجلترا وفرنسا والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية، وأخيراً باكستان المعروفة باسم “القنبلة الإسلامية”، وتسعى دول أخرى للانضمام إلى النادي النووي، أبرزهم إيران، التي يتوقع أن تمتلك، في بداية العام القادم، نحو عشر قنابل نووية، وفقاً لمعدلات التخصيب، التي وصلت إليها حتى الآن.
تنقسم الأسلحة النووية إلى قنابل نووية تكتيكية، وقنابل نووية استراتيجية، تستخدم الأخيرة، غالباً، لاستهداف عمق العدو في الجانب الآخر، بينما تستخدم القنبلة النووية التكتيكية في ميادين المعارك، في الأراضي التي تتواجد فيها قوات الجيش بالقرب من قوات العدو. ونظراً لصغر حجم القنابل النووية، وبالتالي محدودية تأثيرها، فتستخدم لتحقيق مكاسب محدودة، داخل ساحات المعارك. يمكن تحميل القنبلة النووية التكتيكية على أنواع مختلفة من الصواريخ، سواء التي تطلق من الأرض أو الجو أو البحر، ويتراوح وزن الواحدة منها ما بين عشرة إلى مائة طن، ويتحدد استخدامها، وفقاً لمساحة ونوعية الهدف؛ ولتقريب الصورة، فالقنبلة زنة 100 طن، تعادل خمسة أضعاف القنابل التي ألقيت على هيروشيما ونجازكي.
وإذا ما نظرنا للحرب الروسية الأوكرانية، فبعدما فشل الهجوم، الذي كانت تخطط له أوكرانيا، في ربيع العام الماضي، لتدمير وطرد القوات الروسية التي اخترقت حدودها، واستولت على أربعة مناطق، هي لوهانسيك ودونتسك وزابورجيا وخيرسون، قامت روسيا بتطوير أعمالها القتالية داخل أوكرانيا، خلال الشتاء الماضي، واستولت على أراض جديدة، لتبلغ نسبة ما استولت عليه، حتى الآن، نحو 26% من الأراضي الأوكرانية. وفجأة انتبهت أمريكا والدول الأوروبية، المنشغلة بأحداث الشرق الأوسط، وحرب غزة، وقرروا دعم أوكرانيا بأسلحة جديدة. فأعلنت فرنسا إمداد أوكرانيا بطائرات ميراج 2000، وهو ما يأتي في إطار الدعم التقليدي الذي بدأ مع بداية الحرب.
ولكن الجديد، في هذه المرة، والخطير، هو قرار أمريكا بالسماح لأوكرانيا، باستخدام تلك الأسلحة الأمريكية، داخل العمق الروسي، على عكس ما كان متبع خلال العاميين الماضيين، فعندما قررت أمريكا دعم أوكرانيا بمدفعية الهيمارس، على سبيل المثال، حذرتها من استخدامها للهجوم على الأراضي الروسية، وقصر استخدامها في الدفاع عن الأراضي الأوكرانية.
أما وأن أعطت أمريكا الضوء الأخضر، الآن، لأوكرانيا لاستخدام الأسلحة الجديدة، في عمليات هجومية على الأراضي الروسية، فهذا يعني أن تصبح الأراضي الروسية، لأول مرة، معرضة للهجوم من القوات الأوكرانية، وهنا يصبح لروسيا الحق، في هذه الحالة، طبقاً لقواعد الاشتباك، أن تستخدم القنابل النووية التكتيكية ضد أوكرانيا، إذ تبيح قواعد الاشتباك، استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، في حال تعرض أراضي الدولة المالكة للسلاح النووي، إلى تهديد، مباشر، على أراضيها.
ورغم عضوية روسيا بالنادي النووي، كأحد الدول المالكة لهذا السلاح، إلا أن عمليات القتال الجارية على مدار العاميين الماضيين، لم تضطرها، يوماً، إلى استخدام السلاح النووي، رغم التلويح والتهديد به من قبل. أما اليوم، وبعد تصريح أمريكا لأوكرانيا باستخدام المعونة العسكرية الأمريكية، داخل العمق الروسي، فإن الأمر قد يختلف، وهو ما ليس خافياً على أي من أطراف اللعبة. ورغم عدم وجود إحصائيات، أو تقارير، معلنة حول مخزون روسيا من الأسلحة النووية التكتيكية، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، ترجح امتلاك روسيا لما لا يقل عن 2000 رأس نووي تكتيكي، بما يمثل عشرة أضعاف الترسانة النووية التكتيكية الأمريكية.
ولقد حددت أمريكا لأوكرانيا إمكانية مهاجمة العمق الروسي حتى 2000 كيلو متر، فقط، وهو ما لا يشكل فرقاً، في الحقيقة، فمجرد مهاجمة أراضي دولة تمتلك سلاحاً نووياً، يتيح لها حق استخدام سلاحها النووي، لصد الهجوم، وفقاً لقواعد الاشتباك النووي، المتفق عليها، وهو الحق الذي لا أظن روسيا ستتردد في استخدامه، خاصة في مدينة خاركيف، ومدينة أوديسا، المرشحتان كأهم الأهداف المنتظر استخدام روسيا لحقها في ضربهما بالقنابل النووية التكتيكية، لتكون بداية لتحول نوعي في أعمال القتال، في الفترة القادمة، ولنشهد أشكالاً مختلفة وسيناريوهات جديدة لم نتطرق لها من قبل، تفرض تساؤلاً عن ماذا بعد استخدام روسيا للقنبلة النووية التكتيكية على الأراضي الأوكرانية؟
لذا فليس بغريب أن يحبس العالم كله أنفاسه، مترقباً لما سيحدث في الأيام القادمة، عاقداً الأمل أن يكون تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن، لأوكرانيا بضرب العمق الروسي، لا يعدو كونه جزءاً من الحرب النفسية، وهو ما ستكشفه الأيام القادمة.