منذ استقلاله عام 1956 دفع السودان ثمن النزاع بين العسكر والمدنيين، وهو اليوم يدفع ثمن الصراع بين العسكر والعسكر. الانقلابات العسكرية عمرها في هذا البلد من عمر استقلاله. فشلت مرّات عدّة ونجحت مرّات عدّة، وحملت حيناً إلى السلطة عَبَدَة كراسٍ تمسّكوا بها ولم يغادروها إلّا قسراً إلى السجن أو القبر أو المنفى، وجاءت مرّة بظاهرة لم تتكرّر في التاريخ العربي الحديث، اسمها الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب، الذي زهد بالسلطة وسلّمها إلى المدنيين في الموعد المحدّد بعد انتهاء الفترة الانتقالية، التي أعقبت سقوط جنرال آخر هو جعفر النّميري بثورة شعبية.
مآرب شخصية وسلطوية قمعية
هذه المرّة الجيش السوداني يقاتل جيشاً سودانيّاً آخر، صنعه بنفسه لمآرب شخصية وسلطوية قمعية، وكبر هذا الجيش الموازي ونما حتى بات ندّاً عنيداً وصعباً للجيش الأمّ، يوازيه عُدّةً وعديداً وسلاحاً، ومالاً ودعماً محلّياً وخارجياً.
قتال ومواجهات يكادان يكونان صفريَّين بين الجيش الرسمي الذي يقوده رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان الجنرال عبد الفتاح البرهان، ونائبه في مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”. معارك في المدن الثلاث للعاصمة: الخرطوم، خرطوم بحري وأم درمان، ما لبثت أن امتدّت سريعاً في كلّ الأرجاء السودانية، في كسلا والفاشر والأبيض ونيالا والجزيرة ومروي وبور سودان والقضارف وكوستي والدمازين وغيرها، وشهدت مجازر لا توصف غطّت على أخبارها شراسة العدوان الإسرائيلي على غزة
تبلورت الأزمة عقب إطاحة نظام الرئيس عمر البشير في نيسان 2019 في غياب الكفاية والخبرة لدى نخبة المرحلة الانتقالية الآتية من فراغ الحياة السياسية بعد ثلاثة عقود من الحكم التوتاليتاري، وهو ما أطلق طموحاً جامحاً إلى الوصول إلى السلطة لدى القادمين الجدد، فانقسم المكوّن المدني على نفسه، الأمر الذي حال دون تأسيس تحالف سياسي قويّ يمكنه قيادة البلاد، فانتقل الأمر مجدّداً إلى العسكر الذين انقسموا بدورهم، فاختلّ المشهد الأمني وضعُف الجميع.
علّة العسكر أنّ الجيش الرسمي هو بقايا جيش نظام، الولاء فيه لشخص وليس للدولة، وتالياً لم يعد جيشاً نظامياً لأمّة ووطن. أمّا ندّه الجيش الآخر فهو ميليشيا حرب تأسّست من بقايا عصابات قتل وإجرام ارتكبت أبشع الجرائم في دارفور وغيرها. وفاقم الصراع السباق المحموم بين الطرفين على السيطرة على الموارد ومناجم الذهب والنفط والثروة. وزادت الطين بلّة أصابع التدخّل الخارجي في بلد يعدّ واحداً من أهمّ نقاط التنافس الدولي في القارّة السمراء، في ضوء ما يتمتّع به من أهميّة حيوية بفضل تموضعه الجيوسياسي، كجزء من منطقتين مهمّتين هما البحر الأحمر والقرن الإفريقي، فضلاً عن كونه بوّابة مركزية لشرق إفريقيا ووسطها، لا سيما أنّه يجاور دولاً محورية هي: مصر وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وإفريقيا الوسطى.
الإتفاق الإطارى
على هذه الخلفيّة اندلع القتال بين الجيشين، وطار حتماً الاتفاق الإطاريّ المتّفق عليه للحلّ السياسي بين العسكر والمدنيين، وصار الانتقال المقرّر إلى الحكم المدني الديمقراطي في خبر كان. ولم يعد معروفاً ماذا يجري في هذا البلد؟ هل هو تمرّد مسلّح؟ أم صراع على السلطة والموارد على خلفيّة طموحات شخصية؟ أم حرب أهلية تعبّر عن انقسامات حادّة في البلاد؟ أم حرب إقليمية على السودان تدار بالوكالة عبر زعامات محليّة؟
وجوه قديمة في الصراع الجديد
أزمة الهويّة التي كانت السبب الرئيسي في الحرب السابقة بين شمال السودان وجنوبه وأدّت لاحقاً إلى انفصال جوبا عن الخرطوم وإقامة دولة خاصة بالجنوبيين الذين غالبيّتهم من الأرواحيين والمسيحيين ذوي الأصول الأفريقانية، حضرت مجدّداً بكلّ قوّتها في الصراع الجديد في بلد يعيش فيه أكثر من 50 مجموعة إثنية تتفرّع منها أكثر من 400 قبيلة لكلّ منها لغة ولهجة خاصة بها وديانة أو طريقة تتبع لها، فبرزت مجدّداً أزمة دارفور التي ينحدر منها زعيم الطرف الثاني في الصراع محمد حمدان دقلو، الذي ركّز هجماته في هذا الإقليم الشاسع والغنيّ بالموارد، أملاً في السيطرة عليه مستنداً إلى عصبية القبائل العربية التي ينتمي إليها.
الأمر الذي أثار مخاوف القبائل من أصل إفريقي في المنطقة كالفور والزغاوة والمساليت. وبالفعل فإنّ المعارك مع الجيش التي حدثت في مدن الإقليم مثل الفاشر والأبيض والجنينة، وترافقت مع ارتكاب مجازر، أعادت ذكريات جرائم الإبادة التي حدثت هناك في السابق على أيدي عصابات “الجنجويد” أنصار “حميدتي” و”معلّمه” السابق الرئيس البشير، وأثارت الخوف في أقاليم أخرى ومناطق التنوّع الإثني القبلي والديني مثل كردفان وأعالي النيل والنيل الأزرق، فعادت الحركات المسلّحة إلى الظهور المسلّح لحماية مناطقها أو الاستئثار بها في ظلّ الفوضى القائمة في البلاد، ومن بينها حركة “العدل والمساواة” بزعامة جبريل إبراهيم وحركة “تحرير السودان” بزعامة أركو ميناوي في دارفور و”الجبهة الشعبية لتحرير السودان / شمال” بزعامة عبد العزيز حلو في النيل الأزرق وجنوب كردفان.
دولة ذهب النوبة
سيطرت مجموعات قبائل البجا والرشايدة على الشرق، وأحيا أبناء النوبة مطالبتهم بدولة في الشمال، لا سيما بعد اكتشاف الذهب في مناطقهم، لتبقى دولة الوسط وحيدة بعد انصراف الأطراف عنها. وكان لافتاً ومثيراً للدهشة تخلّي فرقة الجيش عن مدينة واد مدني عاصمة الجزيرة في الوسط لقوات الدعم السريع من دون قتال.
بعد مضيّ أقلّ من عام على اشتعال حرب الجيشين في الخرطوم، يلوح خطر التقسيم الثاني في الأفق. وإذا حصل هذا التحوّل فلن يوقف الحرب والدم لا بل سيسعّرهما لأنّ القتال سيشتدّ في المناطق التي يسعى كلّ من الطرفين المتقاتلين إلى ضمّها إلى نفوذه، لا سيما في الخرطوم حيث سيكون الحسم هناك، فإذا كسب “الدعم” في عاصمة البلاد صار السودان أسيراً لحكم ميليشيا تثير ارتكاباتها في مناطق سيطرتها الريبة والفزع. وإذا كسبها الجيش انكفأ “الدعم” إلى ملاذه الأخير دارفور وسعى إلى فصله عن الوطن الأمّ.
السيناريوهات كثيرة، وكلّها في انتظار نتيجة المعركة والقتال. فهل ينتصر الجيش وينهي تمرّد قوات الدّعم السريع، أقلّه في العاصمة الخرطوم ومدنها، وتالياً فرض سلطته الكاملة على البلاد بحكم قانون الطوارئ؟ للجيش مزايا قتالية تتمثّل بقدرته النّاريّة الجوّيّة والبرّيّة، ولقوّات الدعم مزايا قتالية تتمثّل بانصياعها الكامل لقائدها “حميدتي” وخفّة حركتها وخبرتها الميدانية في خوض حرب عصابات طويلة، وتالياً قدرتها على مواصلة حرب أهلية طويلة أشبه بتلك التي حدثت مع جنوب السودان.
الوساطات .. هل تنجح
هل تنجح الوساطات المحلّية والخارجية، ولا سيما السعودية منها والمصرية، في التهدئة وإعادة الطّرفين إلى طاولة الحوار أم لا مكان لصوت العقل في ظلّ دويّ المدافع؟ ماذا عمّا يسمّى فلول النظام السّابق أو تحديداً الحركة الإسلامية التي طُردت من السلطة مع عمر البشير وتتحيّن الفرص للعودة والانقضاض على هياكلها؟ هل تؤدّي جامعة الدول العربية دورها المفترض أم الخلافات العربية العربية والطامعة بموارد السودان تذكي نار الصراع وتشجّعه؟ ماذا عن الاتحاد الإفريقي الذي تتورّط بعض دوله في الصراع السوداني لمآرب خاصة؟ ماذا عن روسيا والصين المنخرطتين أيضاً في تنافس محموم مع قوى الاستعمار السابق على القارّة السمراء وفي القلب منه السودان؟ ماذا عن إسرائيل التي وقّعت اتفاقاً للتطبيع مع الخرطوم وعينها على البحر الأحمر لا تنام، لا سيما بعد حرب غزة والدخول المثير للحوثي على خطّ الحرب وتهديده بمنع سفنها من عبور باب المندب الحيوي؟ ماذا عن مصر المعنيّة بالشأن السوداني لألف سبب وسبب، هل تحتمل خرقاً جنوبيّاً جديداً لأمنها القومي المنكشف شرقاً وغرباً وشمالاً؟ هل تقبل بثغرة أخرى في عمقها الحيوي يتسلّل منها الإثيوبي الذي يهدّدها بمائها في النيل؟ ماذا عن ليبيا المجاورة الممزّقة بالانقسام والتقاتل والتي حدودها المشتركة مع السودان مفتوحة للمسلّحين والمرتزقة والإرهابيين؟ ماذا عن أميركا اللاعب الدولي الكبير والحاضر الأبرز في الشأن السوداني؟
يُعتبر موقف واشنطن حاسماً في إنهاء الحرب أو إطالة أمدها، حيث ترغب في الحدّ من النفوذ الصيني والروسي معاً. وللتذكير فإنّ الدعم الأميركي قبل سنتين مكّن حكومة أبي أحمد المنتخَبة في إثيوبيا من إبعاد القوات المتمرّدة عن أديس أبابا، وتطويقها وحصارها في مناطق محدّدة في إقليم تيغراي، ثمّ الدخول معها في مفاوضات سياسية بعد كسر شوكتها. فهل تكرّر في السودان ما فعلته في إثيوبيا أم لديها في البلد العربي حسابات مغايرة تتجاوز الحسابات السودانية الضيّقة إلى حسابات إقليمية أوسع بكثير وأشدّ خطورة؟
لكنّ الحلّ يبقى داخلياً، فهذا البلد كبير ويتّسع للجميع وخيراته يمكن أن تفيض على الجوار، وفيه الكثير من الرجال والنساء “الكندكات” القادرين على بناء مستقبل مختلف. وفي غياب الإرادة الذاتية أو تغيّبها فإنّ رحلة السودان وأهله على دروب المعاناة والتشرذم ستطول