لم توفّر الصراعات الدولية بلداً في القارّة الإفريقية إلا ونال نصيبه إمّا عبر نزاعات حول الحدود أو مجازر بين الجماعات، حتى لو كانت من لون واحد وعرق واحد وديانة واحدة، مثل ما جرى بين الهوتو والتوتسي في رواندا وأدّى إلى سقوط حوالي مليون قتيل.

كما في إفريقيا وأوروبا كذلك في أميركا الوسطى واللاتينية حيث طال الصراع أيضاً بعدما عصفت الحرب الأهلية بين الولايات الشمالية والجنوبية في الولايات المتحدة وانتهت إلى الفدرالية التي نعرفها حالياً. شمل الصراع نيكاراغوا وبوليفيا وتشيلي والأرجنتين والبيرو والإكوادور، ودار بين المستعمرات الفرنسية والإنكليزية والإسبانية دون هوادة.

ضمن هذه الاحتدامات كانت المضائق والممرّات والبحار المفتوحة أو شبه المقفلة تشكّل موقعاً مهمّاً في مجالات الصراع الدولي. فمن البحر الأسود إلى مضيقَي البوسفور والدردنيل ومضيق تايوان وممرّ بهرنغ بين ألاسكا الأميركية والبرّ الروسي الممتدّ إلى القطب الشمالي، وفي الخليج العربي ومضيق هرمز وصولاً إلى باب المندب والبحر الأحمر، وأخيراً مضيق جبل طارق الفاصل بين أوروبا وإفريقيا وبين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط.

غواصات الحزب جاهزة

السابع من أكتوبر 2023 تعرّفنا على نمط جديد من الصراعات الدولية والإقليمية على المضائق والبحار.

بعدما حاولت طهران مراراً إقفال مضيق هرمز كما فعلت ببعض المرافئ العراقية والكويتية، ها هي تسعى مجدّداً عبر أداتها الحوثية في اليمن إلى التأثير على الملاحة في البحر الأحمر، وإن قيّض لها فستقفل باب المندب حيث تمرّ أكثر من 15 في المئة من التجارة الدولية. وفي الوقت نفسه لا تتوانى الأجهزة والتنظيمات الإيرانية من خلال قادتها ووسائل إعلامها عن تهديد الملاحة في البحر المتوسط. فإلى جانب مدّها الحزب بصواريخ ذكية وعمياء على حدّ سواء ومتوسّطة وبعيدة المدى، زوّدته أيضاً بغوّاصات صغيرة مسيّرة ليستهدف بها موانئ إسرائيل كما المنصّات النفطية في شرق المتوسط. وهذا ما غمز إليه الأمين العام للحزب حسن نصر الله في آخر إطلالاته الإعلامية حين قال: “لقد جهّزنا للعدوّ ما يلزم جوّاً وبرّاً وبحراً”. فتهديده بالاستعدادات البحرية يعتمد على ضبّاط من الحرس الثوري الذي هدّد قادته عدّة مرات بإغلاق البحر المتوسط.

عين إيران على المتوسط

اليوم، في عصر العولمة، وبعيداً عن الصراعات القديمة التي طوى صفحتها العالم، تستهدف إيران الملاحة الدولية وعينها على المتوسط للأسباب التالية:

– تخفيف بعض العبء العسكري في البحر الأحمر عن الحوثي.

الصراع

– زيادة تشتيت قوى التحالف الدولي الذي لم يكتمل (لا بل غرّدت أوروبا بأسطولها البحريّ بعيداً عن أميركا).

– مشاغلة الجيش الإسرائيلي من البحر أيضاً واضطراره إلى حماية المنصّات النفطية في المتوسط.

– تشتيت القبّة الحديدية واضطرارها إلى توزيع راداراتها وصواريخها إلى أوسع نطاق جغرافي.

– تهديد أوروبا، ليس فقط بالمهاجرين بحراً، بل بالصواريخ أيضاً التي قد تصل إلى جنوب القارّة، وما تهديد قبرص إلا جزء من هذه الخطّة التي رسمها الحرس الثوري الإيراني ونطق بها نصرالله.

– تأثير الاحتكاك مباشرة، إن لم نقل مع أسطول الولايات المتحدة على حظوظ بايدن بالفوز بالانتخابات المقبلة، فمع البواخر البريطانية لتصفية حسابات طهران مع المواقف الإنكليزية المتعلّقة بداخل إيران مروراً بوجود المعارضة في لندن ووصولاً إلى مواقف الأخيرة في مجلس الأمن ومواقفها في الوكالة الدولية للطاقة الذرّية.

– وربّما أيضاً الدفع بفصائل “البوليساريو” التي جهّزها الحرس الثوري بالصواريخ البعيدة المدى للتأثير على مضيق جبل طارق في غرب المتوسط.

– ولا يخفى أنّ هذه التهديدات تهدف للتهويل النفسيّ على الرأي العام الإسرائيلي والحدّ من ضغطه على حكومة تل أبيب ومطالبته نتنياهو بمهاجمة الحزب فيما طهران خائفة من خسارة هذه الذراع الأساسية لمشروعها.

إذا كانت الإدارة الأميركية تلاعب الحوثي في البحر الأحمر ولا تريد توجيه ضربة ساحقة له لاعتبارات ليس أوّلها مسايرة إيران ومحاباتها واحتواءها إلا أنّ واشنطن مستفيدة من تضرّر التجارة الصينية من إغلاق مضيق باب المندب. في المقابل، تستفيد موسكو من التصرّفات الإيرانية التي تشاغل بعض أساطيل أميركا في العالم بدفعها إلى توزيعها في الخليج العربي والبحر الأحمر وتايوان والبحر المتوسط، فتخفّف الدعم الأميركي لأوكرانيا.

تسعى إيران إلى تأزيم الأوضاع في كلّ من البحرين الأحمر والمتوسط، نتيجة تلمّسها أنّها خارج المفاوضات التي تجري حول قطاع غزة، وحول اليوم التالي بعد انتهاء حكم فصائلها هناك، لا سيما أنّها تعاني بشدّة عزلة دولية خانقة (كان المرشّح الرئاسي مسعود بزشكيان قد عبّر عنها عندما أعلن جهاراً وصراحة ضرورة التفاهم مع أميركا والغرب لرفع العقوبات حتى يتحسّن الاقتصاد).

كما تسعى طهران إلى هذا التأزيم البحريّ في المنطقتين معاً لاستجرار التنازلات من إدارة بايدن بالمفاوضات المباشرة الجارية في نيويورك بين سفيرها أمير إيرواني والإدارة الأميركية. فلا همّ لدى إيران بهذه المعارك “الدونكيشوتية” الخاسرة سلفاً سوى تكريس نفوذها خارج حدودها حتى لو كان الثمن دماء الفلسطيني والسوري واللبناني واليمني والعراقي.

الدولة الجديدة التي تأسّست في عام 1979 (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) وعوض أن تبدأ من حيث انتهت الصراعات وتعلّمت منها كبرى الدول، قرّرت التعلّم من التاريخ واختارت منه الأسوأ، فيما العالم اليوم طوى تلك الصفحات وأقفل كتابها. القراصنة اختفوا تقريباً والقانون الدولي يحدّد المصلحة الدولية بحراً وبرّاً جوّاً، فيما تضرب إيران عرض الحائط بدروس التاريخ تلك، ولا تعتبر من دروس الجغرافيا الثابتة بخطوطها العريضة.. وشعوبنا هي التي تدفع الثمن.